عندما کتب نيتشە الى أخته أليزابيث قائلا: ”أصبحت صامتا لأن لا أحد منهم يستطيع فهم حديثي، إنه لأمر رهيب أن تلتزم الصمت بينما لديك الكثير لتقوله“، فإنه قد عبر عن حالة الرفض والتصادم مع الواقع الانساني بعدم التأقلم والقبول بحالات من النبوغ غير العادي لدى البعض، فهناك من إلتزم الصمت ولم يجهر بما يجول في مکنوناته من حقائق خوفا من العواقب.

بل وإن کافکا قد عبر عن نفس المعنى ولکن باسلوب آخر عندما قال: ”لا أستطيع أبدا أن اكشف للناس عن ما يجول بخاطري من أفكار بشكل كافي، حتي لا يبتعدوا عني هلعا ورعبا“، وحالة کافکا هنا تدل على شعوره بالاغتراب وعدم الفهم لطروحاته وأفکاره وکأنه کان يعبر عن الکثيرين الذي دفنوا أفکارهم الصائبة في مقابر عقولهم وهالوا عليها بتراب الواقع المتقوقع على نفسه.

يقول مارك توين: ”عودة الزمــن للوراء: أشهر أمنية اتـفقت عليها البشرية“، والحق إن کثير منا قد عاش أحلام يقظة تمنى خلالها أن يعود الماضي لکي يصحح أخطاءا أو يعين البعض ويقف الى جانبهم ليثبت إنهم على حق وصواب!

في کتاب المدرسة القرآنية للمفکر الاسلامي الراحل محمد باقر الصدر، لفت نظري کثيرا الملاحظة الدقيقة للصدر عندما طلب منهم عدم الاستعجال في إصدار الحکم على الخليفة العباسي هارون الرشيد، وأن يضعوا أنفسهم في مکانه ومن ثم يحکمون عليه، علما بأن الرشيد من لخلفاء المکروهين عند الشيعة بسبب من مواقف تنسب إليه بحق الامام موسى أبن جعفر"، والصدر دفع حياته ثمنا لمواقفه ضد نظام حزب البعث.

يمکن لکل إنسان أن يصدر الاحکام بخصوص الآخرين أيا کانوا، والاحکام قد تکون في الغالب سريعة من قبل معظم الناس والاحکام التي تصدر على عجالة على الارجح تکون خاطئة في حين إن الاحکام المتأنية تکون في الغالب هي الصحيحة أو إنها تکون أقرب منها للإنصاف.

سألوا إعرابيا بعد مرور 40 عاما على مقتل أحدهم لوالده، فأجاب بأنه لا زال يفکر في الامر! في حين إن امرٶ القيس عندما علم بخبر وفاة أبيه لم يأبه لذلك، وقال لمن أخبره: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر. لکنه في النتيجة أخذ على نفسه عهدا بأن لا يأکل ولا يشرب خمرا، ولا يقارب النساء حتى يثأر لأبيه!

السرعة في إصدار الاحکام وتنفيذها، تکون دائما بسبب الانفعالات النفسية وهيجان المشاعر، في حين أن التأني في إصدار الاحکام يکون دائما بسبب من غلبة العقل والمنطق على العوامل النفسية، رغم إنه وفي کثيرا من الاحيان وعندما تکون أمام قضية أو موقف غامض أو غير واضح المعالم، فإن الحکم حتى ولو کان عقلانيا قد لا يکون صائبا وهذا يمکن سحبه على الکثير من الامور والمسائل السياسية والتأريخية والدينية وبالاخص الطائفية منها.

بعد أن قتلوا الخليفة الامين العباسي في الصراع الذي دار بين الاخوين وبعثوا برأسه الى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسين بن مصعب وكتب معه بالفتح فلما وصل أخذ الرأس ذوالرياستين فأدخله على ترس فلما رآه المأمون سجد وبعث معه طاهر بالبردة والقضيب والخاتم‏.‏ لکن المأمون بنفسه وعندما قرأ مرثية خزيمة بن الحسن على لسان أمه زبيدة، فقد بکى وقال: أنا والله الطالب بثأر أخي قتل الله قتلته! إنها صحوة ضمير المأمون، والانسان أمام صحوة الضمير يواجه المحکمة التي يعلم إن مجرياتها العق بعينه.

أما عمرو أبن جرموز وکما روى أبن أبي الحديد في شرح النهج، کيف إنه تبع بالزبير بعد أن ترك الاخير ساحة المعرکة وغدر به أثناء صلاته خلف الزبير وأخذه لسووف ورأس‌ الزبير للأمام علي أبن أبي طالب، وهو ينتظر المکافأة منه لکن عليا خيب ظنه عندما قال وهو ينظر الى سيف الزبير: ان هذا سيف طالما فرج الكرب عن رسول الله "ص" ثم قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار، وقد إغتاظ أبن جرموز من ذلك کثيرا فإستل سيفه وطعن نفسه، فقال علي: حقت عليه النار!

بروتس صديق يوليوس قيصر الحميم، عندما شهر خنجره کبقية أعضاء مجلس الشيوخ في مٶامرتهم المشهور على القيصر، فإن الاخير قد هتف جزعا: "حتى أنت يابروتس! إذن فليمت قيصر"، لکن بروتس رد عليه "أحبك ولکن أحب روما أکثر" ثم طعنه طعنة يمکن وصفها ببيت الشعر المشهور لجبران خليل جبران ”عندما أصابت الرصاصة قلبي لم أمت.. لكني مت لما رأيت مطلقها“، وبروتس هذا وبعد أنا قام مارك أنطونيو برثاء القيصر بين الناس کعرف روماني فقد أثر رثاءه على الناس کثيرا فثاروا على المتآمرين الذين کانت نهايتهم بعد أن أبرم مارك أنطونيو تحالفا مع أوكتافيوس ولبيدوس سحقوا به بروتوس وكاسيوس ومن سار معهم فى معركة فليبى سنة 42 ق. م.

وعلى الرغم من البشاعة المفرطة لقتل الحلاج حيث تذکر کتب التأريخ بأنه ”أي الحلاج“ قد صلب ثلاث مرات: اثنتان منها حين قـبض عليه سنة 301هـ/914م فـ "أدخل.. مشهورا على جمل إلى بغداد…، ثم حبس في دار السلطان“؛ حسب الذهبي في ”تاريخ الإسلام“. وصلب مرتين ”وهو حي“ في جانبي بغداد الشرقي والغربي تخويفا للعامة لكنه لم يقتل؛ والمرة الثالثة هي التي أعدم فيها وصلب يومين. وإنها کانت أکثر قسوة من إغتيال يوليوس قيصر، لکن يوجد ثمة تشابه في المضمون بينهما حيث إن معلمه وأصدقائه المقربين قد تخلوا عنه أو تنکروا له رغم إنهم کانوا يعلمون بأنه على حق وإن صديقه أبو بکر الشبلي قد قال ”وقد رأى الحلاج مصلوبا: ألم أنهك عن العالمين“ وکأنه يشمت به! وقيل بأن الجنيد بغدادي، الذي کان شيخ الطائفة الصوفية التي کان الحلاج من أتباعها، وفي خضم الامر برجم الحلاج قبل صلبه والتمثيل بجسده ومن ثم حرقه ورمي رماد جسده في دجلة بحسب روايات أخرى، قد قام برجم الحلاج بوردة، فهتف الحلاج: قتلتني وردة الشيخ وحق السماء!