قبل أسبوعين، إقتحم الآلاف من أنصار السيد مقتدى الصدر المنطقة الخضراء، التي تخضع لحراسة مشددة، والمُؤمّنة بالصبات الكونكريتية والأسلاك الشائكة، للمرة الثانية، ودفعوا أعضاء البرلمان الذي يقع ضمن محيطها، الى جانب سفارات ووزارات مهمة، إلى الفرار. كان هدفهم المعلن هو منع تنصيب رئيس حكومة موالية لمحور إيران، الذي تمثله اليوم أحزاب الإسلام السياسي الشيعي المنضوية ضمن تحالف "الإطار التنسيقي" بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي نجح بإقناع حلفاءه لإختيار أحد أتباعه المدعو محمد شياع السوداني الذي لا يمتلك أدنى مقومات القيادة كمرشح لمنصب رئيس الحكومة، بعد إنسحاب نواب التيار الصدري ورفضهم التحالف والتوافق معهم على رئيس حكومة بمقاساتهم.

الصراع الحالي بين الأخوة الأعداء بات ينذر بالتصعيد. فبعد أن عجز مقتدى الصدر عن تشكيل حكومة مع حلفاءه الجدد، الذين إختارهم من السنة والأكراد خلافاً لهوى حلفاء الأمس، رغم فوزه بالإنتخابات البرلمانية في أكتوبر الماضي، بعد أن وضعوا له العقدة في المنشار، غيّر تكتيكاته. فقد إنسحب نوابه من البرلمان في يونيو، تاركين المجال للإطار ليعرض ما في جعبته من خيارات، والتي تبين أنها فارغة، والقليل الذي رشح عنها غالبا ما كان يصطدم بسقف شروط الصدر المرتفع، وكان آخرها ترشيحهم للسوداني لرئاسة الوزراء، والذي عَبّر الصدر عن رفضه له عِبر أنصاره الذين تظاهروا أولاً ثم إنسحبوا دون ضوضاء، لكن قوى الإطار الموالية لإيران تجاهلتهم وإستفزتهم عِبر عدم التراجع عن قرارها بخصوص مرشح رئاسة الوزراء. لذا تظاهروا مجدداً، وقاموا بهدم جزء من جدران المنطقة الخضراء، وقضوا الليل في قاعة البرلمان.

لم يكن إقتحام أنصار الصدر للمنطقة الخضراء ولمبنى البرلمان تحديداً إعتباطياً، بل بتوجيه منه، لما له من رمزية سلبية، كونه المطبخ السياسي الظاهر لكل حكومات عراق ما بعد 2003، والتي فشلت جميعها، بنسب متفاوتة، في إدارة البلاد، بل وساهمت بعضها في خرابها، كحكومة المالكي سيئة الصيت التي تسببت بتسليم ثلث العراق الى داعش وثلثه الثاني الى مليشيات إيران، وهذا ربما هو ما إستفز الصدر في سياسة الإطار، لأن بينهما ما صنع الحداد. فالصدر لن ينسى للمالكي صولة الفرسان التي إستهدفت أنصاره، والأخير لن ينسى للصدر لعبه دوراً محورياً في محاولة سحب الثقة منه حين كان رئيساً للوزراء، الى جانب علاوي والحكيم والبارزاني والنجيفي. فبعد أيام من تعطيل البرلمان طالب مستشار الصدر والمتحدث بلسانه من جمهوره مغادرة البرلمان، مع البقاء في المنطقة الخضراء، والإستمرار بالإعتصام السلمي أمام المباني الحكومية والبرلمان، وهو ما قابله الإطار بدعوة مناصريه للتظاهر دفاعاً عما أسماه بالشرعية التي بات يظهر نفسه كمدافع لها، في تكتيك مشابه لما فعله الأخوان ومرسي عام 2013، ليعطي إنطباعاً بأن الصدر وأتباعه يُخِلّون بها وبآلياتها الدستورية.

لذا كل الدلائل تشير اليوم الى أن الأمور وصلت بين الأخوة الأعداء في التحالف الشيعي الى نقطة اللا عودة، التي لم تعد تنفع معها دعوات التهدئة، كدعوة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي المتظاهرين الى الإنسحاب، والتي لم تجد لها آذاناً صاغية، وهو أمر كان متوقعاً نظراً لضعفه وقبوله أن يكون شاهد زور لتمشية الأمور بعد إستقالة عادل عبد المهدي. فالصدر أستنفذ خياراته الديمقراطية منذ زمن، وبات يراهن على الشارع. لذا يبدو أن لا حَل للصراع دون ضغوط خارجية، وتحديداً من إيران، التي تُمِسك بخيوط اللعبة السياسية في العراق وتتحكم بلاعبيها وتحركهم كماريونتات حسب مصالحها منذ سنوات، والتي لم تتدخل حتى الآن لإنشغالها بمفاوضات ملفها النووي مع الغرب، وليس زهداً بنفوذها في العراق، الذي لا يمكن أن تضحي به لأسباب عديدة، منها إقتصادية بإعتباره البقرة الحلوب التي أنقذتها من حصار خانق فرض عليها بسبب الملف النووي، ومنها تكتيكية لكونه ورقة مساومة مهمة في مفاوضات هذا الملف مع أمريكا المَعنِيّة بالعراق، الى جانب كونه جغرافياً قلب هلال مشروعها التوسعي القومي الذي يمتد من لبنان الى اليمن، ويرتدي قناعاً إسلامياً مذهبياً، وفر له حاضنة مجتمعية تتبناه أو تتعاطف معه، وغَدَت خط دفاع أساسي له، بعد أن بات الآلاف من شباب العراق مرتزقة بمليشيات تواليها بالإسم والفعل، وتجاهر بوقوفها الى جانبها في أي مواجهة محتملة بينها وبين أي جهة أخرى، حتى أن كان العراق نفسه.

قد يقول قائل أن الصدر وتياره كان حتى الأمس جزئاً من المنظومة الحاكمة وفسادها خلال السنوات الماضية؟ ولم يبذل وزراءه، الذين كانوا متواجدين في كل الحكومات السابقة، أي جهد عملي ملموس لمواجهة الفساد وتحسين الخدمات والبنية التحتية، أللهم بإستثناء إطلاق بعض التصريحات الدعائية والمبادرات الإستعراضية، التي لم تقضي على فساد شركاءه في العملية السياسية، ولم تحجم طائفيتهم، لذا لا يمكن الوثوق به 100% بل ولا حتى 30%، وهو كلام صحيح ولا غبار عليه. لكن الوثوق به شيء، وهو أمر ليس مطروحاً أساساً، والتعامل معه ببراغماتية إستناداً لما يجاهر به من رغبة قد تكون صادقة بتشكيل حكومة وطنية مدنية مع السنة والأكراد تكون بعيدة عن تأثير إيران، شيء آخر، ولا بأس بأن تُأخَذ منه ضمانات يتعهد بموجبها بلَجم جمهوره المُنفلت ودعوته للإلتزام بالقانون، بعد أن يعلن هو تفرغه للأمور الدينية وإبتعاده عن التغريدات السياسية. فرقصه على الحبال من خلال تبديل أدواره، مرة كزعيم معارضة، ومرة كزعيم كتلة برلمانية فائزة بالإنتخابات، ومرة كزعيم ديني، لا يمكن أن يستمر لأن ضرره أكثر من نفعه. إن الحالة المثالية تتمثل طبعاً بإزاحة كل أحزاب الإسلام السياسي، لأن وجودها يمثل عقبة بطريق مدنية العراق وإستقلاليته، لكنها غير ممكنة وشبه مستحيلة التحقيق، حتى في المستقبل البعيد. لذا واقع الحال يقول بالتعامل مع أفضل السيئيين للتخلص من الأسوء، وهو في هذه الحالة مقتدى الصدر، فهو يعتبر غير طائفي أو عنصري مقارنة بأقرانه في أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، لذا يسعى دائماً لتقديم نفسه كممثل لكل العراقيين، بما فيهم السنة والأكراد، مع حرصه على إبراز صفته الشيعية عبر الكلام والمظهر. كما يسعى لإظهار إستقلاليته، من خلال معارضته للتأثير الإيراني على القرار السياسي العراقي، الى جانب معارضته للتواجد الأمريكي في العراق، مع إبقاءه لحبل الود موصولاً مع إيران، ومع دول محيط العراق العربي وزيارته لعواصمها ولقاءه بقادتها بين حين وآخر، وهو ما لم ولا تفعله أغلب القيادات الشيعية الأخرى التي تتبنى خطاباً متشنجاً ليس فقط تجاه أشقائها العرب، بل وتجاه شركائها في الوطن، فتصف بعضهم بالإرهابيين، وبعضهم الآخر بالإنفصاليين. وهما توصيفان لم ينطق بهما الصدر يوماً، بل ويُؤنِّب من يستخدمهما، وها هو اليوم يصطدم بحلفاءه السابقين، بسبب رغبته بتشكيل الحكومة عبر التحالف مع من يصفونهم بالإرهابيين والإنفصالين!

بالتالي يبدو أن السيد الصدر يقف اليوم عند مفترق طرق. بين الحفاظ على وحدة الصف الشيعي المتين، الذي بدأ يَتَصَدّع، مع شركاءه في المذهب والعقيدة من الأحزاب الموالية لإيران، وهو ما دفع محمد رضا، نجل السيستاني ومدير مكتبه وذراع إيران التي تُمَرّر من خلاله مخططاتها بأسم المرجعية، كفتوى الجهاد الكفائي، الى الإجتماع به لمحاولة رأب صدع التحالف الشيعي، وتذكيره بالخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها، والتي لا نعلم إن كان الصدر ما يزال ملتزماً بها. أو إعادة بناء وتقوية الصف العراقي المُتصَدِّع أصلاً مع شركاءه في الوطن من السنة والأكراد. فإلى أيهما سينحاز؟ ربما الأول، إذا فكر كرجل دين شيعي، وهو ما يفعله دائماً في نهاية كل أزمة، لأنه الأسهل و"الأحوط وجوباً" والأسرع الى الجنة! وربما الثاني، إذا فكر هذه المرة كإنسان وكعراقي فقط!