منذ مطلع الألفية الثانية والعالم يشهد حالة غير مسبوقة من الاضطراب في تفاعلاته في ظل حالة العجز حول الاتفاق على تطبيق القواعد الحالية للنظام الدولي، في وقت تسعى فيه الدول الاقليمية والدولية إعادة تمركز القوة بينها. ومنذ مطلع هذا العام تسارعت وتيرة الأحداث اثر الحرب الروسية على أوكرانيا نهاية فبراير، والتي ادت الى أزمة طاقة غير مسبوقة عالميا، علاوة على مشكلة تصدير الحبوب مما هدد الأمن الغذائي العالمي، ومضى شبح التضخم يحلق بنسبة لم تشهدها الدول منذ نحو أربعة عقود.

ومع الأيام الأولى من شهر أغسطس الجاري، اشتدت التوترات بعد زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي لجزيرة تايوان بجنوب شرق آسيا، ما أغضب الصين التي تعتبر أن تايوان جزءا أساسيًا من أراضيها. وحمل القادة الصينيين على التأهب والترقب للتعاطي مع مرحلة أشد خطورة قد تفرض عليهم أن يستعدوا لحرب محتملة بشكل أكبر. حيث تواصل الصين زيادة إنفاقها الدفاعي الذي يبقى متركزاً على تطوير القدرات التي يحتاجها "جيش التحرير الشعبي" من أجل اجتياح تايوان.

فكيف يمكن قراءة ذلك وسط كل هذا الاحتقان بين الدول "النووية"؟
بداية، فإن الأزمات السياسية الحاصلة حاليًا تكشف عن مجموعة من التفاعلات بين القوى تعيش حالة صراع شديد لم يبلغ درجة المواجهة المسلَّحة أو الحرب الشاملة وسط التكتّلات الحاصلة، مع الإدراك بوجود احتمال عال لنشوبها ووقوعها، وهي تتطلب من صناع القرار والمسؤولين اتخاذ موقف وخطوات عملية واصدار قرارات جوهرية قد تكون مصيرية وقد تغيّر وجه التاريخ .

غير أن الأزمات السياسية بالقدر التي توحي فيه بالخطورة والحدّة، إلا أنها تعبّر بنفس القدر عن فرص الحلول المحتملة، لأنها تضع القوى والأطراف كافّة أمام وطأة ضرورة اتخاذ قرار واضح وسريع . يقول ريتشارد نيكسون وهو يلخص وجهة نظره حول تعريف الأزمة "إنّ مفهومي الأفضل للأزمة توضحه الطريقة التي يكتب بها الصينيون الكلمة باللغة الصينية إذ يرمزون لها بشكلين: أحدهما يُعبِّر عن الخطر، والآخر يُعبِّر عن الفرصة".

إن العلاقات الدولية تنظر إلى "القوة" باعتبارها العامل الأسمى في السياسة القومية، فهي أشبه ما تكون بالمركز العصبي في جسم الإنسان، حيث يمكن عن طريق القوة دفع التهديدات وحماية المكاسب واطلاق الجهود وتحقيق الأغراض.

وعملية "توازن القوى" هي تلك اللحظة التي تشير إلى أن قوّة الأطراف المُتنازعة قد وصلت الى حدٍّ يتعذَّر عليها جميعًا في ظلها اللجوء الى استخدام القوة لفض الخلاف، وهو ما يطلق عليه "الردع المتبادل" حيث يقتنع أفراد النِّزاع أن الخسائر المحققة تفوق المكاسب المرجوة.

إذن ما نراه من تموضعات وتهديدات وحروب "هامشية" طويلة الأمد لا حسم فيها كالحالة في أوكرانيا، ليست إلا بهدف اعادة ترتيب توازن القوى الكبرى في العالم وتقاسم الكعكة، حيث ان قادة العالم اجمع "متفقون ضمنًا" أنه لا مجال لحرب "نووية" مدمرة يخسر فيها الجميع.

ولفهم الموقف من التحالفات في شرق اسيا، والذي قد لا يشبه الحالة الأوكرانية في أوروبا، لا بد من الوقوف عند نقاط عدّة أهمها:

أولا: تعد اتفاقية أوكوس (بالإنجليزية: AUKUS) التي وقّعت أواسط سبتمبر الماضي من أبرز الخطوات في تجاه تعزيز النفوذ في منطقة الشرق الأقصى، وهي اتفاقية أمنية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وتغطي الاتفاقية مجالات رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية والأنظمة تحت الماء وقدرات الضربة بعيدة المدى. ويتضمن أيضًا مكونًا نوويًا، ربما يقتصر على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشأن البنية التحتية للدفاع النووي.

ثانيا: تفعيل الدفاع "الأمني الرباعي"، المعروف أيضًا باسم كواد (Quad)، ويضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، وربما توسيعه من خلال دمج الديمقراطيات الآسيوية المؤهلة عسكريًا في حلف الناتو. من منطلق "قدرات فرض القوة" .

ثالثا: تحاول واشنطن القيام بخطوات متوازية من خلال مناورات عسكرية مشتركة و متكررة مع حلفائها في آسيا كتلك التي اجرتها مع إندونيسيا، مطلع الشهر وبوجود آلاف الجنود الإندونيسيين والأمريكيين وانضمت إليهم قوات استرالية وسنغافورية ويابانية، واللافت انه وللمرة الأولى فإن الطائرات المقاتلة الألمانية تتجه إلى أستراليا للمشاركة في مناورات أيضا .

رابعًا: الجدل الدائر في أروقة الإدارات الأميركية حول المصالح الأميركية الخارجية وتضاربها في أكثرمن قضية لا تحتمل الدخول في حربٍ أو الانزلاق الى نزاع عسكري لا يستفيد منه أحد، فالبنتاغون والاستخبارات لهما الكلمة الفصل في ظل مشهد يعج بالتعقيدات الإستراتيجية المتشابكة، مع التأكيد على ضرورة الحدّ من التمدد الروسي والصيني و كبح جماحهما وهو أمر متفق عليه بين الديموقراطيين والجمهوريين على حد سواء.

خامسًا: التخفيف من الاعتماد على "الصناعات الصينية" فبعد أن استفاقت واشنطن (خلال أزمة كورنا) على حقيقة أن جزيرة تايوان تصنع أكثر من نصف الرقائق الإلكترونية في العالم، والتي تعد جزءًا أساسيا في أغلب صناعات التكنولوجيا الحديثة، سارعت مراكز القرار الأميركية الى الدعم العاجل وتعزيز صناعة الرقائق في أميركا، حيث وقع بايدن على قانون يقدم دعم بقيمة 52 مليار دولار لتحقيق ذلك.

سادسًا: فإن الصين تنتهز الفرصة لتراجع نفوذ الولايات المتحدة التي بنت تحالفاً للدول، بما فيها عدد من كبريات الاقتصادات في العالم، بهدف فرض عقوبات صارمة على روسيا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، فيما الصين تسعى لاستغلال اي شرخ في تلك التحالفات دون ان نهمل موقف الهند المقربة من واشنطن والتي لم تمتثل لفرض العقوبات على روسيا على سبيل المثال.

سابعًا: ربما الصين تعمد الى اعادة ضم جزيرة تايوان، دون الانجرار الى حرب واسعة، ففي خطوة غير مسبوقة، شملت المناورات الصينية الأخيرة مناطق شرق تايوان، التي تعد ذات أهمية استراتيجية . وفي المقارنة بين الوضع الأوكراني والوضع في تايوان فإن الصين ترجح ان الدعم العالمي لتايوان سيكون أقل حماساً وأدنى صخباً مما كان عليه بالنسبة إلى أوكرانيا، لأسباب عدّة على رأسها أن حاجة تلك القوى لاقتصاديات للصين أكبر بما لا يقارن بالنسبة لروسيا، إضافة الى ان كثير منها لا توجد لها علاقات قوية تربطها بجزيرة تايون.

ومن جهة أخرى الى انه من أبرز نقاط الضعف الحرجة بالنسبة لتايوان هو الوضع الجغرافي للجزيرة، وصعوبة توفير الإمدادات في حال حصول غزو وفرض الصين لحصار محتمل، فمن الصعوبة ان لم يكن مستحيلا ان تجازف الطائرات والسفن التجارية لتوصيل الامدادات وهو أمر يختلف عنه كليا في اوكرانيا القابعة في الحضن الأوروبي وتربطها أكثر من حدود برية مع دول عدة أعضاء في حلف "ناتو".

أيضًا فقد أدركت كلا من الصين وتايوان هو أن أميركا لن تتدخل بشكل مباشر ضد خصم مدجج بأسلحة نووية، فعلى رغم الدعم الاميركي لأوكرانيا الا انها لم تتدخل مباشرة، وهو ما يمكن ان نصفه بالغموض الاستراتيجي فالولايات المتحدة تتعمد عدم الوضوح فيما يتعلق بالدفاع عن تايوان وكيفية القيام بذلك في حالة وقوع هجوم واسع النطاق على الجزيرة.

أخيرا، انّ كل الاضطراب الذي يشهده المحيط الهادئ ومنطقة شرق آسيا، والمناوارات العسكرية المتنوعة ليست إلا من باب تبادل الردع وإعادة تموضع القوى للدول "النووية" ، ربما تتلاشى فيها دول "صغيرة" في حروب "هامشية "، لكن دون الانجرار الى حرب "عالمية شاملة"، في رقصة تحالفات جديدة لنظام عالمي يفتتح مرحلة جديدة لم تضح ملامها النهائية بعد.