بعد نحو أسبوعين من الزيارة التي قامت بها نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب الأميركي، لتايوان، والتي وصفتها الكثير من الدول والمنظمات بالإستفزازية، قام وفد من الكونغرس يضم خمسة أعضاء برئاسة السيناتور إد ماركي، وهو ديمقراطي من ولاية ماساتشوستس، بزيارة تايبيه ولقاء الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون، في خطوة تصب المزيد من الزيت على نار التوترات المشتعلة في مضيق تايوان.

بلا شك أن الصين قد نجحت في إدارة أزمة زيارة بيلوسي دبلوماسياً، ومن يعتقد بأن عدم تنفيذ تهديداتها التي أطلقتها عشية زيارة بيلوسي، يأتي خصماً من رصيد هيبتها العالمية، فهو مخطىء لسبب بسيط هو أن الخبراء يدركون تماماً طبيعة الشعب الصيني وثقافته وتقاليده العريقة، وقدرته على إدارة مثل هذه المناورات السياسية من دون السقوط في فخ الإستدراج أو التورط في صراعات لا يريدها على الأقل في الوقت الراهن.

أحد أبرز مكاسب الصين من وراء زيارة الوفود الأميركية تتمثل في حشد الرأي العام العالمي دعماً للموقف الدبلوماسي الصيني، حيث تقاطرت مواقف الدول والحكومات دعماً للموقف الصيني بشأن تايوان، حتى أن موقف بيلوسي ونواب الكونغرس لم يحظ سوى بإيماءات تأييد جاءت على استحياء من العواصم الغربية المؤيدة للسياسات الأميركية تجاه الصين، وتحديداً أعضاء حلف الأطلسي.

موقف الصين في إدارة ملف تايوان اكتسب قوة إضافية عقب زيارة بيلوسي ونواب الكونغرس، فالمسألة لم تعد تقتصر على دعم سياسة "صين واحدة"، بل امتدت إلى كشف وفضح السياسات الأميركية التي تغامر بأمن واستقرار العالم وتكاد تشعل حرباً كبرى أخرى في وقت يعاني فيه العالم أشد المعاناة جراء إستمرار الحرب في أوكرانيا.

لم يعد هناك شك لدى الكثيرين حول العالم بشأن إفتقار السياسات الأميركية للمسؤولية بل والذكاء المفترض توافره لدى قوة عالمية مثلها، حيث غامرت واشنطن بالتورط في تأجيج الصراع الأوكراني، بدعاوى وحجج مختلفة، وتسعى الآن لتكرار السيناريو ذاته في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وتوتراً، شرق آسيا، حيث الصين القوة الدولية الصاعدة، والكوريتان واليابان وقوى نووية أخرى مثل الهند، ما يعني أن اندلاع حرب هناك يضع العالم بأكمله أمام سيناريو كارثي لا مفر منه.

تدرك الولايات المتحدة أن زيارة كبار مسؤوليها للجزيرة التي تعتبرها الصين جزءاً منها، وكذلك المناورات التي تجريها دورياً بالاشتراك مع تايوان، وكافة الأنشطة العسكرية الأخرى تمثل حلقة إستفزاز لا تنتهي للصين، التي تجري هي الأخرى مناورات واسعة في مضيق تايوان، ما يجعل الفرصة قائمة لأي خطأ يقود إلى صراع مدمر!

الإستفزازات الأميركية المتعاقبة ربما تدفع الصين لمراجعة خططها لاستعادة سيادتها على جزيرة تايوان، وهذا أمر يبدو أن مخططي الإستراتيجيات الأميركية يسعون إليه بقوة، انطلاقاً من أن قوة الصين المتنامية تدفع هؤلاء المخططين للإقتناع بالتعجيل بالمواجهة الشاملة مع الخصم الإستراتيجي العنيد قبل أن تستفحل وتتعاظم قوته العسكرية والإستراتيجية وتصعب مواجهته مستقبلاً، ورغم أن الصين تدرك ـ بحسب الشواهد ـ مؤشرات الإستدراج أو التوريط هذه، فإن المتوقع أن تعمل على إجهاض هذا السيناريو الغربي، ولكنها مع ذلك قد لا تستطيع تفاديه في ظل تركيز واشنطن على هذا الهدف من دون مراعاة لعواقبه الخطيرة على العالم.

من المنظور الواقعي أيضاً فإن هذه الاستفزازات الأميركية المتعاقبة تجعل من الصعب فهم توجهات إدارة الرئيس بايدن، الذي يتحدث بشكل دائم عن الدبلوماسية كأداة لتسوية النزاعات والأزمات، مثلما يحاول ويكرر في الملف النووي الإيراني من دون الإنتباه لإراقة ماء وجه بلاده في هذا الملف، ولكن الجميع يتابع كيف يغذي الحرب الدائرة في أوكرانيا بمليارات الدولارات وبشكل متواصل ومكثف للغاية، وكيف أنه ترك الباب موارباً أمام حليفته الديمقراطية نانسي بيلوسي التي تعد واحدة من أبرز قيادات الحزب الديمقراطي، للقيام بزيارة تايوان، من دون أن يحاول إقناعها بالعدول عن هذه الخطوة التي تنطوي على مقامرة خطيرة بالمصالح الإستراتيجية الأميركية!

من استقراء ردود فعل البيت الأبيض تجاه زيارة بيلوسي وغيرها لتايوان يبدو أن الأمر لا يحظى بموافقة بايدن، ولكن يبدو أنه كان يريد امساك العصا من المنتصف بادعاء أن الزيارة برلمانية وأن القلق الصيني غير مبرر، في حين انه يدرك تماماً أن اللعب على هذه النقطة تحديداً لن يحظى بقبول الصين بالغة الحساسية تجاه الملف التايواني، الذي تعتبره مسألة كبرياء وطني، وقناعتي الذاتية أن بايدن لم يستطع وقف إندفاع بيلوسي التي كانت تسعى وراء مجد شخصي قبل أفول تاريخها السياسي، وتعزيز موقف الديمقراطيين قبل انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر المقبل.

محصلة ماسبق كله أن السياسة الخارجية الأميركية تغرق في فخ إنعزالية جديدة، رغم كل إدعاءات بايدن بأن الولايات المتحدة "عادت"، فالعزلة باتت تحاصر واشنطن في مناطق نفوذها التقليدية، حيث تتمدد روسيا والصين في افريقيا والشرق الأوسط وآسيا بسرعة وفاعلية، وحيث ينحسر النفوذ والدور والموثوقية الأميركية في هذه المناطق، الأمر الذي يتطلب من واشنطن مراجعة فورية لمجمل سياستها الخارجية للحفاظ على ما تبقى من دورها ونفوذها العالمي.