أبَتاهُ وابْتَلَّتْ مِنَ الدّمعِ الحزينِ مَفاوزُ الماضي العَتيقْ
ورأيتُ في عينيْكَ عطفَ أُبوَّةٍ وحنانَ يُنبوعٍ عميقْ
اُمدُدْ يَديكَ لعلَّها في دربِ أحزاني تُنيرُ ليَ الطَّريقْ
اُمدُدْ يَديْكَ فإنَّني في بحرِ أشجاني غَريقْ
أَبتاهُ هلْ لي أنْ أعودَ وأنْ تعودْ
أنتَ الّذي تُعطي
وأنا المُنَعَّمُ في الوجودْ
وأعودُ أبحثُ في جيوبِ ثيابِكَ البيضاءِ
عن قِرشٍ وأحيانًا رِيالْ
ما كنتُ آبَهُ بالغدِ
فغدٌ أبي في جيبِهِ ألقى المَنالْ
ما كنتُ أَعرِفُ أنَّهُ كلُّ الّذي في جيبِه ذاكَ الرِّيالْ
حتَّى وليس بجيبِه ثمنُ الغَداءِ لبيتِنا ذاكَ النَّهارْ
لكنَّهُ يَمضي وفي إيمانِهِ رِزقٌ يَجيءُ بلا انْتظارْ
أَبتاهُ إنِّي اشتَقْتُ أنْ ألقى المَودَّةَ في عيونِكَ
تُرشِدُ العقلَ القَرارْ
عن ذلكَ العَطْفِ الّذي يَنْهَلُّ لا يَخشى انْكِسارْ
آنستُ حبَّكَ يا أبي
فلْأَقتَبِسْ منهُ النَّجاةَ لحِيرَتي
فلعلّني أَلقى الهُدى
ما بينَ دفئِكَ والدُّموعِ الحانِياتِ
لبعضِ إيمانٍ تَجلَّى في يَقينِكَ لِلمَماتْ
أحتاجُ بعضًا مِن ثَباتِكَ في مُلِمَّاتِ الحياةْ
لكنَّهُ أبتاه قدْ أَخذَ التَّمائمَ ثمَّ هاجَرْ
لمْ يَنتظرْ حتَّى يرى ما قد جرى فوقَ المقابِرْ
وكأنَّهُ قد عاد لي في العينِ بعضٌ مِن بَريقْ
وحُنُوُّ عَطفٍ في ثَنا عتَبٍ رَقيقْ:
«قدْ ضِعْتَ يا ولَدي وخانتْكَ الطَّريقْ
أم طال دربُكَ لمْ تَصِلْ
حتَّى إلى صدرٍ حَنونٍ تَستريحُ وتَستفيقْ
لا لن تعودَ كما رعيتُكَ ذلكَ الطّفلَ المُدلَّلَ يا بُنَيْ
ها قد مضى ذاكَ الزَّمانْ
لا أنتَ أنتَ ولا المكانُ هو المكانْ
اللهَ يا ولَدي سلامُ اللهِ يغشى ذلكَ الزَّمنَ السّلامْ
وأَجيءُ مِن وسَطِ الزِّحامْ
بلْ أُمُّكَ الحسناءُ تُنسيني الزِّحامْ
وتُعِدُّ لي ما قدْ تَيَسَّرَ مِن طعامْ
آهٍ على تلكَ المودَّةِ بينَنا بل إنَّهُ ذاكَ الغرامْ
وبَقِيتُ أرعى حُبَّها حتَّى وإنْ لجَّ الخِصامْ
وكأنّهُ غزَلٌ ونَضحكُ بعدَهُ ذاكَ الخِصامْ
وكأنَّنا كنَّا نُعِدُّ قصيدةً وحروفُها عَتَبُ الكلامْ
حتَّى صحوْنا ذاتَ يومٍ حلَّ يا ولدي فلَمْ يَطِبِ المُقامْ
ووجدْتُها رحَلَتْ وعيني بعدَها .. لا بعدَها عيني تَنامْ
كنَّا بكيْنا واحترقْنا للعِظامْ
ما كان في الأعماقِ أكبرْ
ما كان في الأحداقِ أكثرْ
بل حينَها الأيَّامُ تَعبُرُ ثمَّ تَعبُرْ
لم تبقَ يا ولدي صبيًّا بل رجُلْ
ورحلتَ تَبحثُ عنْ أمَلْ
كمْ من طريقٍ قد سلكْتَ وكمْ هبطْتَ وكمْ علوْتَ
وما عزَمْتَ على الهربْ
ولكمْ عَشِقْتَ مِن النِّساءِ وكمْ عتَبتَ وكم غُدِرْتَ
وكمْ تعِبتَ ولم تَتُبْ
ولكمْ شرِبْتَ مِن الكؤوسِ ولمْ تَسَلْ
تلكَ الّتي كانت شرابًا علْقمًا أو مِن عَسلْ
هذا زمانُكَ يا بُنَيْ
وزمانُنا معَنا ارتَحل»