السيرة الذاتية، بمنطق الأدب، "هي فن سرد الشخص لسيرة حياته أو جزء منها أو عرض ليومياته، أو اعترافات شخصية، وهي تعتمد على الذاكرة“. وهي بمثابة إظهار المكتوم، وتوثيق التاريخ للواقع والشخصية. بينما يراها علماء الاجتماع والنفس بأنها "إعادة كتابة التاريخ“ من قبل الكاتب، أي إن السيرة الذاتية تقوم بمنح أصحابها فرص لإعادة رسم ماضيهم الخاص. فهي ذاتية تتحمل التضليل، أو عدم قدرة المؤلف في تذكر الذكريات أو عدم رغبته في الكشف عنها لدواعي ذاتية أو مجتمعية.
قرأت الكثير من أدب السير الذاتية العربية، ووجدت معظمها تميل إلى السردية الإنشائية أو على شكل يوميات تقليدية، أو مذكرات عابرة، بعضها يميل إلى بطولات زائفة، أو تضخيم الأنا، وتلفيق الأحداث. مثلما وجدت بعض السير هي أدب بامتياز؛ وهي على سبيل المثال لا الحصر، أعمال لطفية الدليمي "عصيان الوصايا"، ومحمد شكري "الخبز الحافي"، وجبرا إبراهيم جبرا "البئر الأولى"، ومريد البرغوثي "رأيت رام الله" وواسيني الأعرج "سيرة المنتهى" وبهاء طاهر "السيرة في المنفى"، وعبد الله إبراهيم “أمواج - سيرة عراقية" التي نحن بصدد الحديث عنها.
تبدأ الموجة الأولى من عنوان الكتاب "أمواج" الصادر عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر بطبعتها الأولى 2017 قطر بنحو 600 صفحة، حيث اختصار الكلمة، وثراء المعنى بمدلولاتها الرمزية، والميل إلى التقليدية التي لا نراها في كتب السير الحديثة التي تفتعل التطويل والغرابة والإثارة في العنوان. وعادة ما يكون استعارة أو صورة كنائية يختفي وراءه كم كبير من المعاني والدلالات والأسرار؛ المياه المتقاذفة بالتتابع، والذبذبات المتنقلة عبر الكون، وموجة الشباب بعنفوانه وقوته؛ هي تجميع لسر الحياة. أما العنوان الفرعي "سيرة عراقية" فأنها مقصودة لا ضفاء الأهم، وهو الوطن على المهم وهي الذات، بمعنى الحديث عن قصة العراق، الأكبر من الفرد والقبيلة والطائفة والقومية.
سيرة الصديق الأثير د. عبد الله ابراهيم، صاحب موسوعة السرد العربي وعشرات المؤلفات النقدية، هي موجات لذات المؤلف التي تتلاطم مع موجات أحداث أكثر من نصف قرن من خلال سردية تمزج بين الرواية والسيرة؛ كشف تناقضات البيئة وتلوثها بأمراض القيم البائدة، وكشف تناقضات السياسة. مثلما تحتشد أيضاً بعشرات الشخصيات والمدن العراقية والعربية بحمولات معرفية عميقة. وهو برأي الكاتب "مدونة اعتراف وليس تبريراً" ص 18.
وكعادتي في هذه الزاوية الصحفية التي لا تحتمل التطويل، أحاول استعراض الكتب المهمة والمثيرة للجدل بلغة التفسير والإشارة لتنبيه القارئ على الأعمال المتميزة. لذلك أقول إن فصول السيرة التي استحالت إلى إحدى عشرة موجة متتابعة؛ ولكل موجة تسلسل ذو عدد ترتيبي، فضلاً عن عدد من التقسيمات الفرعية ذات العنوانات المستقلة، فيها الكثير من الأوجاع والذكريات والنرجسيات، مرة برؤية روائية أدبية، ومرة على شكل مذكرات قصصية. هي تحتمل النقد، كذلك الثناء.
تتجلى الأهمية الأدبية للسيرة الذاتية للمؤلف في شمولية المضمون وأمواجها المتلاطمة التي اتخذت جسراً للعبور إلى منطقة التفسير الموضوعي، ومحاولة شد انتباه القارئ لواقعية الأحداث من عدة جوانب: الأول يتمثل في البناء الفني للسيرة، وطريقة سرد الأحداث الواقعية عبر دمجها وصهرها في بوتقة العمل الإبداعي، وعدم التقيد بالترتيب الزمني للأحداث، حيث سردية فنون "الاعتراف" للدخول إلى "منطقة مثيرة وحساسة وخطيرة في سيرته الذاتية يروي فيها مثال شخصيته وأخطاءها وخطاياها وسلبياتها بأسلوب اعترافي صريح".

الثاني: البعد الموضوعي للسيرة، وهي ضرورة أخلاقية ومهنية، لكنها ليست مطلقة، فالذات لها نوازع فردية، بيولوجية واجتماعية، والكاتب إنسان قبل أن يكون مبدعاً "أنبثق التواطؤ بين أهوائي ومقتضيات الحياة" ص80، فترى النرجسية واضحة في ثنايا الشخصية التي يخفيها الكاتب بمهارة اللغة والتعبير الرشيق "لكي أكون لم اعرف ما أريد" ص11، لكن الموضوعية هي السائدة في العمل. فانا من نفس جيل المؤلف، حيث عاصرنا معاً الكثير من أحداث العراق، وشهدنا الكوارث والنكبات، وتقاسمنا الأوجاع التي وزعت على العراقي بالتساوي. شعرت شخصياً بواقعية الأحداث وصدقها؛ كأنني المؤلف الافتراضي الذي ينقُش بإبره على جدران الحياة العراقية.

والثالث يتمثل في التعبير عن البعد الاجتماعي والسياسي ضمن الصيرورة للنص السيري. فشخصية البطل احتلت موقعاً مركزياً في ذاتها وسلوكها وتناقضاتها، وهيمنتها على الحدث الدرامي. فهو لا يكتفي بالسرد الوصفي، وإنما بالتحليل النقدي، والتأويل والتفسير، والنقد والاستشراف "وحدست بان عراقاً كالذي احلم به في طريقه للزوال" ص372، لكنه من جهة أخرى يعترف بأن "حاسَّة الاستشراف ضامرة" ص423.
ومرة نجده باحثاً اجتماعيا متأثرا بمقولات علي الوردي، ومستشهداً به، في تفسيره للتشيع والتسنُّن ص23. ومرة أخرى محللاً سياسياً يعطي وصفات جاهزة للكوارث والصراعات السياسية، ويقارنها بالأمثلة "فاستثمروا النقمة القديمة لإيقاد شرارة التطلُّعات العرقية والمذهبية، وراحوا يُغذُّونها بأكاذيب كثيرة، وقاد ذلك إلى حقبة أمراء الحرب أو أسياد الحرب، كما ظهرت في الصين في نهاية الحقبة الإقطاعية، وفي كل من لبنان ويوغسلافيا والصومال" ص579.
كما إن السيرة تمتلئ بشروحات الأنساب وأصول العشائر ومرجعياتها، والطوائف والقوميات، وتفسيرات الحرب العراقية الإيرانية ص129. وهو ما قد يثير الجدل حول أحقية كاتب السيرة في تثبيت هذا التقليد أم يتركه للقارئ لكي يَحكم على الأحداث بنفسه؟

" أمواج"، كتبت قبل سنوات، لكنها ما زالت تشتعل حضوراً أدبياً في قوتها وتأثيرها، لأن النص السردي صنع حياة جديدة في الشخصيات والمكان والزمان، واختصر السيرة العراقية، والذات العراقية بملحمة معرفية باهرة في تصوير مختلف البيئات والمواقف، وتشريح النفس البشرية وتقلباتها الحياتية. ربما تذكرنا أمواج عبد الله إبراهيم بأمواج كافكا وتساؤلاته: لماذا نتقاتل؟ لماذا رحى الحرب دائرة لا تستريح؟
لم تكن "أمواج" مجرد عمل أدبي يقوم على مبدأ "الاعتراف" الذاتي فقط، وإنما تضمنت اليوميات والمذكرات والرواية وأدب الرحلة والتاريخ في كوكتيل جميل ومتناغم. وجمالية السيرة أنها لم تكن ذاتية فقط، وإنما كانت سيرة عراقية بامتياز، حيث تَلاطم الأمواج العاتية فوق بعضها البعض، وتضاربها وتداخلها لتصنع تعرية وتآكلاً في جروف الوطن التي هي أصلاً مليئة بالشقوق والتجاويف والمنحدرات والشروخ.
والسيرة ما زالت ساخنة تستحق القراءة، وهي حقاً "سيرة تمتزج فيها اللذّة بالمتعة الفكريّة" ص445، ولكنها كما يبدو لم تنته فصولها بعد!


[email protected]