الغل والحقد والضغائن، ثلاثية حياتية لموت العقل والضمير، مترابطة بالأفعال القبيحة، والسلوك غير السوي؛ غل القلوب وحقد النفوس. الحاقد تعيس دنيا وآخرة. والحقد مرض خطير متفش في هذا الزمان؛ فهو ضغن، وإمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، وسوء الظن لأجل العداوة أو طلب الانتقام. والحقد ظاهرة تاريخية ابتدأت منذ نشأة الكون، وأول ذنب ارتكبه الإنسان على وجه الأرض كان دافعه الحقد، حيث قتل قابيل هابيل في أول جريمة كانت بين الأخوة.

والحقد يُقتل التسامح، ويوسع الضغينة، ويكرس روح الانتقام، ويضعف الصفح العاطفي، وفي منطق علم النفس فأن الحقد له أنواعه، الجسدية واللفظية، وأسبابه الكثيرة؛ هو "الخوف من الآخرين الأعلى منزلة" بسبب عدم رضا الحاقد عن ذاته "من وجهة نظر فرويد"، ويسميه مبدأ الإسقاط. فالفرد "بحاجة لأن يكون جيداً، ومتميزاً، مما يدفعه إلى الكره والحقد على الأشخاص الذين يعتبرهم في نظره أفضل منه“.

هناك تفسيرات أخرى، طبية عقلية، ترى إن ظاهرة الحقد هي "فكرة معرفية، وشعور بالغضب الشديد الذي ينتاب الإنسان امتلاك الغير شيئاُ ما لا يمتلكه هو“، بينما ترى نظرية (تقييم الذات) إلى "إن شعور الفرد بالغيرة يزداد كلما قلَّ تقييمه لذاته".

والتفسير الاجتماعي للحقد، كما أراه، هو نتاج بيئة مريضة متوترة بالصراعات والعوز، وثقافة منغلقة تجاه المختلف، الذي ترى فيه تهديداً له، مثلما هي نتاج للتراكم التاريخي المتأزم، ولفكرة العشائرية والعائلية التي ترسخت في العقول والوجدان. وبالتالي هو تفكير بطريقة المقارنة الكارهة للواقع الذي يعيش فيه. لكن المفكر والفيلسوف الإيطالي الشهير (مكيافلي) يرى بأن الأمراض الاجتماعية والنفسية هي من “صنع الزمن لا البشر“.

ومثلما لم تسلم العامة من هذا المرض البغيض، فقد تضخم وجوده بين النخب الثقافية والعلمية، حيث أشارت الدراسات العلمية إلى أسبابه؛ فالبعض يراه نتيجة النرجسية العالية في هذه النخب، وتضخم "بروتستات" الأنا لديهم، وشعورهم بداء العظمة. والبعض يراه نوع من السادية المغلفة بالغيرة والحسد للتسابق في الحصول على الصدارة والشهرة. وبعض الدراسات تراه طبيعياً لأنه جزء من طبيعة الغرائز البشرية. ومع ذلك فانه مازال بيننا يعيش حياً يتنفس أوكسجين الحياة.

لقد شهدنا خناقات ملوثة بالغيرة والحقد بين النخب الثقافية، سواء في الوطن العربي أو في قارات العالم الآخر. ولو تم جمع نصوصها فأنها ستكون موسوعات من تاريخ الأحقاد والكراهية والقسوة تصل أحيانا حد فناء الآخر، وإلغاء إنسانيته. صحيح إن البشر هم مجد الكون ولكنه أيضاً "غثاؤه وحثالته كذلك" كما يرى الفيلسوف الفرنسي (بليز باسكال).

علينا التفريق بين المعارك الأدبية التي يحتدم فيها النقاش المتمدن الحر وبين المعارك الهامشية الفردية البغيضة التي تتأسس على البغائض والأحقاد والكراهية، الأولى نعمة، وهي تجديد بارود الأسئلة الفلسفية والثقافية لصالح المجتمع والفكر. والثانية نقمة، لأنها تزرع الموت والضغينة، وتُلوث الحياة الثقافية.
والحقد ظاهرة عالمية، وهي كذلك عربية، لكن الثانية فيها طعم العلقم، وقسوة التوحش القبلي، ورائحة الدم المعطر بحبر الحروف، والكراهية المتطرفة التي تصل إلى حد نبش الأموات وقتلها مرة أخرى.

في العراق تضخمت الظاهرة حد الوجع والحزن بين النخب الثقافية بعد عام 2003، وأصبحت وبالاً على المشهد، حيث الثأر الثقافي والطائفي يتقدم على التسامح، وكأن البعض منهم كان يجلس على قنبلة حقد موقوتة، ما حان الوقت حتى يفجرها على صديقه في الحياة أو رفيقة في الحزب. صار البعض ينبش في العقائد ليثبت تقدميته، ويتصفح الأحوال المدنية ليثبت أصل الفرد ونسبه وتبعيته، ويُلغم كلماته بالمصطلحات السوقية المبتذلة الصادمة للذوق والجمال.

تناقضات ملونة بالأمراض النفسية، وزعيق ناشز بالتهديدات والتحريض والتلفيق. صار الوسط الثقافي يستعير ثقافة الاحتلال المُفرق، وأمراض السياسة العراقية الطائفية واستبدادها الفكري. فبدلاً من أن تكون وظيفة المثقف عضوياً وتنويرياً، صار لدينا المثقف الحاقد الطائفي والمؤدلج والمتملق والانتهازي الذي همّه محاكمة عقل المثقف الإيديولوجي، وليس نتاجه الثقافي. وكأننا "أخذنا الشجرة وتركنا الثمرة" كما يقول الإمام علي عليه السلام.

والأمثلة كثيرة، رأينا الجواهري والبياتي وسعدي يوسف وعبد الرزاق عبد الواحد وحميد سعيد ومظفر النواب وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر وفاضل العزاوي وفوزي كريم وآخرين من المبدعين الكبار يحاكمون على فكرهم وعقيدتهم، وليس على شعرهم وإبداعاتهم. قرأنا قصصاً جاهلية تشيب الرأس عن مبدعي الثقافة والفنون تحاول الغاء تاريخهم وعقلهم بماكينة الحقد والتعصب والكراهية؛ أسلوب قبائل الثأر، وشقاوات الشوارع الخلفية، ومليشيات الثقافة الجديدة.

لا يوجد في الوسط الثقافي أنبياء أو ملائكة بملابس بيضاء، الكل مصاب بداء أمراض البشر؛ الخير والشر، الحاسد والمحسود، الظالم والمظلوم، لذلك لا يصح أن يكون التقييم خارج هذا المنطق. لأن ما جرى مؤخراً للشاعر الكبير سامي مهدي يعطي أشاره سلبية للواقع الثقافي العراقي، قما كتبه البعض خرج عن القاعدة الموضوعية، والضمير الثقافي؛ كانت الكتابات تحمل خصومات سياسية أو شخصية بالدرجة الأولى، لا علاقة لها بأبداع شعره.
وبعضها خرج عن قاعدة الأخلاق والمبادئ عندما تم نبش حياته وأصوله ونسبه وتبعيته، حيث لفقوا عليه الكثير من القصص المفبركة، وكتبوا نفايات بليدة بالعقد النفسية، هي أشبه بسحابة عابرة لا غيث ولا رواء. خاصموا الميت بعد كان حياً بجسده وشعره وكتاباته. ولم يجرأ أحداً أن يقول سطراً واحداً بحقه عندما كان القلب ينبض. غادرنا شاعر الموقف لكنه لم يغادر وطنه وقضيته وضميره.

والقصة لا تنتهي، فالأحقاد تتوزع على جميع المبدعين بالتساوي؛ وهي حالة طبيعية لمجتمع استوطنه الفقر والقهر والغيبيات والأمراض النفسية، والفساد والطائفية. ومجتمع ثقافي تلوث بالطائفية والثارات والأحقاد لسياسية، والقيل والقال. والمأساة أكثر من التفاصيل.
من الآخر، الحقد من مظاهر دنو الهمة: فهو لا يصدر من النبلاء، ولا يليق بالعقلاء.


[email protected]