نعيش اليوم في عالم يتغير بإيقاعٍ متسارع، ولنا أن نصفه بأنه: متقلب، غير مؤكد، معقد، وغامض. عالم، كما يراه البعض، يريد أن يصنع لنا ذكاء اصطناعيا، ويلغي عقلنا البيولوجي، يريد أن يسحب جميع وظائفنا التقليدية، ويجعل البشر يتسكعون في الشوارع. لكنه بالمقابل عصر جديد لم تعد تصلح فيه القوانين والقواعد القديمة، لذلك لا خيار للإعلام إلا أن يساير العصر الرقمي، ويكون الإعلامي ملهما في صناعة رسالته، ويستثمره في تسهيل عمله، ويجعله أكثر تأثيراً في رسالته الإعلامية.
وبمنطق الربح والخسارة، والقسمة والضرب، فأن الرابح الكبير هو المؤسسة الإعلامية، وكذلك الإعلامي، خاصة في عصر تسارع الشبكات العالمية، وتضخم البيانات العالمية التي ستصل بحلول عام 2025 إلى 163 زيتابايت التي تحتاج تحليلها وفهمها إلى عشرات السنوات، بينما يستطيع الذكاء الاصطناعي تجميعها وتحليلها في دقائق.
إن دور الذكاء الاصطناعي في مجال الإعلام صار يتزايد منذ عام 2012، إذ بدأ استخدام "صحافة الروبوت" التي تعتمد على استخدام الروبوت في صناعة المحتوى عبر المنصات الرقمية “فيسبوك، و”توتير”، و”إنستغرام”، وغيرها.
ولقد استفادت المؤسسات الصحفية والإخبارية من تأثيرات “الذكاء الاصطناعي” في المجالات عديدة: حيث يمكنها القيام بتنفيذ المهام المختلفة بشكل أسرع وأسهل مرة بعد مرة، والوصول إلى أماكن يصعب الوصول إليها. فإمكان الإعلاميين أن يقوموا بزيارة أماكن لا يمكنهم أن يقوموا بزيارتها بأنفسهم. على سبيل المثال، زيارة الأماكن الخطيرة وميادين الحروب لتغطية الأخبار هناك بسهولة.
كما يمكن لهذه الآليات أن تقوم بتوليد نصوص مشابهة بشكل كبير للنصوص التي نقوم نحن كبشر بكتابتها، وتلخيص الأفكار المفتاحية المهمة من بين مجموعة كبيرة من المعلومات والبيانات بسهولة. والقيام بالتنقيب عن المعلومات والبيانات واستخراجها بسرعة كبيرة. وتدقيق مراجع هذه المعلومات وتدقيقها لغوياً ونحوياً أيضاً. وإجراء عملية تحليل للمنافسين في السوق، ويمكن للوسيلة الإعلامية الاختيار بين إجراء هذا التحليل في منطقة معينة أو دولة معينة أو في عدة دول ومناطق أو على مستوى العالم.
وبشكل عام، تسهل هذه الالة الذكية في ضخ ومعالجة الأخبار، وجمع المعلومات والتحقق منها، وجمع وفلترة وتحليل البيانات الضخمة وعمل نشرات إخبارية. وتسهيل التواصل مع المراسلين، وتأمين وصول المعلومات بين أطراف متعددة وإجراء مقابلات عن بعد بجودة عالية وتفريغ محتوى المقابلات والحصول على نصوص جاهزة والبحث عن النصوص داخل الصوت والفيديو بكل سهولة وغيرها الكثير من الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يوفرها.
ومع كل هذا التقدم، فأن هناك إشكاليات ينبغي أن تكون حاضرة أمام الباحثين، وهو أن هيمنة الشركات الكبرى ما زالت قوية، وربما ستكون أقوى في المستقبل، من أجل زيادة مكاسبها المالية، والأخطر أن توظف سياستها التحريرية من اجل هندسة أفق إنسان الحاضر والمستقبل. وهو أمر يجري في الواقع، حيث الأخبار المزيفة تطغي على الأخبار الحقيقية، وانتقال الصحافة الجديدة من "الصحافة كمحاضرة إلى الصحافة كمحادثة“. خاصة في الروبوتات الإخبارية على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتوتير.
ومن باب الدقة والموضوعية، فأن فيسبوك ليس فقط منصة تواصل اجتماعي غايتها تقديم الخدمات، وتقريب الفجوة بين الناس، ولكنها كذلك منصة لهندسة وعي الناس، وتشكيل مدركاتهم المعرفية والنفسية بالاعتماد على خوارزميات لإدارة تدفق البيانات. وهذا يعني بأن سلطة الخوارزميات أصبحت "حارس بوابة" جديد.
لذلك صار البعض في الغرب يطلق عليها "صحافة ما بعد الحقيقة“، خاصة في حكم دونالد ترمب، ومعاركه مع الإعلام، واتهامه بأنها "عدوة الشعب الأمريكي“، فتأسست مفاهيم ورؤى جديدة جعلت الكثير من الباحثين يعيدون المفاهيم في ظل ما سميّ "صحافة الفقاعة" و "فقاعة التصفية“، وكلها تشير إلى ما سمي بالأخبار المزيفة٬.
ومع ذلك، فالذكاء الاصطناعي له حدود، ما يمكن وما لا يمكنه فعله؛ القدرة على التحليل والتفكير بالقياس كما يفعل البشر. بمعنى إن هذا الذكاء لا يداني قدرة البشر على التفكير بالقياس المبني على التفكير المنطقي؛ السبب والنتيجة
قلق الحاضر، هو أن يتحول أغنياء اليوم إلى قوة خوارزمية للسيطرة على العقل البشري من خلال امتلاكهم تقنيات التواصل الاجتماعي، ويكون لهم تأثير بعيد المدى على التغطية الإعلامية لأقوى ديمقراطية في العالم.
والقلق الأكبر، هو عدم مشاركة العرب في حل هذه المعادلات الخوارزمية، وصناعة المستقبل، والانشغال بفتاوي الحلال والحرام، وثقافة القبائل والملّل والطوائف والمراجع، والتلذذ بطقوس الأموات والأحزان التاريخية، وتوسعة المقابر والمزابل، ومحاربة الجمال. إن من يدهشه ما يجري هو الذي لا يعرف الربط بين الأسباب والنتائج، فنحن مع الأسف مازلنا الحائط الواطئ في هذا الكوكب!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات