ما زالت فضائح العراق مستمرة؛ فضائح النظام التي تسيطر عليه القوى الدينية التي لا تخاف الله لا في السماء والأرض. فما بين فتاويهم وفتاوى الله عشرين سنة ضوئية بمنطق العلم، أي إن الضوء يستغرق 20 ألف مليون سنة حتى يقطع المسافة بين الأرض والسماء الدنيا. فلا ترعبهم قطعة القماش البيضاء في قبرهم، ولا "نار الله الموُقدة التي تطلع على الأفئدة“. ما بين الله وبينهم فتاوى مبتكرة تسهل لهم السرقة وعمل المنكرات والقتل، وتبرير الفضائح بأنواعها.
عراق الفتاوى والفضائح تتوالى بالمتوليات الحسابية والهندسية والعددية حيث "العلاقة بين كل حد والذي يليه تكون ذاتها لجميع حدود المتتالية"، بمعنى جميع مرتكبي الفضائح يكونون في مأمن من العقاب ما داموا يعملون في حدود الفتاوي التي تُصنع لهم حسب ظروف الزمان والمكان. الكل في جنة الأرض. فسارق المليارات له فتوى خاصة، والقاتل له حصانة جنة المذهب، والمرتشي له حقوق العيش في الأرض بسلام، والكرامات لها حق الاستعباد، والسادة والشيوخ لهم واجب الطاعة والخنوع.

في العراق، يُفتقَد العلم في السياسة والدبلوماسية، ويستعاض عنه بخزعبلات التاريخ والطقوس الحزينة، ويرتفع منسوب مهارة اللصوصية وسرقة المال إلى أعلى الدرجات، فيصبح اللص وزيراً أو سفيراً تكريماً وتشريفاً، مثلما ترتفع التناقضات بمنطق الازدواجية صعوداً في سلم القيادة والحياة؛ أحزاب دينية حاكمة دستورها مؤدلج بأحكام الدين المسيس، وسلوكها السري مُبطن بالسرقات وبناء المراقص وصالات القمار. وسفارات تقيم ولائم القيمة على الحسين، وأخرى تستقبل أهل الطرب لتقيم ولائم الفرح والغناء في عاشوراء على إيقاع الهجع! يالها من متناقضات تفطر القلب!

وهكذا نرى العجب في بلد المتناقضات، تجميع كوكتيل للمتضادات؛ التطبير واللطم والردح والهجع وحبوب الهلوسة وفواحش المتع الطائفية، وأديرة الأئمة وصالات الرقص والمثلية الجنسية لدى الرجال. مجتمع بلا طعم ولا رائحة؛ ينام ليلا جائعاً ومقهوراً، ويستيقظ صباحاً مهووساً بالشكوى، ومُستعبداً بأفيون الطقوس والتغريدات المُضللة.
فما تراه تنسيك عراقيتك وحضارتك وموقعك الجغرافي وهويتك. لأن ما يحدث يفوق الخيال صوراً وأحلاماً. فلا عقلاً بشرياً يستوعب أوجاع العراق وعجائبه الجديدة وفيه 100 مليار خلية عصبية، وكل خلية عصبية في عقل العراقي بها مئات القصص الحزينة والفواجع وعجائب السلطة وموبقاتها.

وإذا كان عراق اليوم تفوح منه رائحة الفضائح والكوارث السياسية، ويُكتب عنه في سجلات المؤسسات الدولية بأنه الأكثر فساداً بين الدول، والأخطر بيئة للعيش، والأسوأ جوازاً، وآخر الدول في مؤشر الرخاء والازدهار، والأكثر فقراً، فأنه طبيعيّاً ُ يكون في أسوء أحواله في مجال الدبلوماسية واختيار السفراء.
فما يأتيك بالأخبار من قصص سفراء الموجة الدينية هذه الأيام مغزية لا تليق بالعراق يوم كان فاعلاً بين الدول، وجاراً في الدبلوماسية، وأحد أعضاء المؤسسين للأمم المتحدة، ومدرسة للسفراء من الوزن الثقيل.
اليوم نسمع قصصاً لسفراء تشيب الرأس، قصص انتهاك حرمات الوطن وفنون الدبلوماسية؛ بعضهم حوّل السفارات إلى مجالس للعزاء واللطم وطبخ القيمة، ومساكن لتهريب المشروبات وغسل الأموال، وعقد الصفقات السرية لعقود الحرام؛ سفارات تتصارع فيها الأحزاب والعوائل بالمحاصصة والتكتلات، وأنشاء مصائد أحقاد للإيقاع بالبشر باسم الطوائف والقوميات.
هل سمعتم ببطولات سفراء العراق الأشاوس في دفاعهم عن الوطن؛ سفير كانت مهنته السابقة "بنجرجي" يغني مع مطربة موريتانية "زيديني عشقاً" وهو بدشداشته في إحدى فنادق نواكشوط، وآخر ذهب إلى جنوب لبنان ليطلق قذيفة "أربي جي7" في منطقة البقاع اللبناني، وقبلها مَنَعَ عضو وفد عراقي من التصريح الإعلامي في بيروت بأسلوب مبتذل. كأننا نعيش عصر دبلوماسية القاذفات "كما قال البعض!
وآخر قصص بطولات السفراء التي أثارت ردود فعل قوية من الخارجية ومواقع التواصل الاجتماعي، هي دعوة سفير العراق للمطرب راغب علامة في بيته، وهي دعوة عادية لو كانت ضمن البرتوكولات الدبلوماسية المعروفة، لكنها وصفت بالمخلة التي لا تليق بمكانة السفير العراقي وتصرفاته الدبلوماسية. وهذا ما جعل الكثير من العراقيين يشتاطون غضباً على الصور الفاضحة التي تخللت الزيارة، والوضعيات المسيئة لزوجة السفير مع المطرب.
ما يجري لبعض السفارات والسفراء طبيعياً. فعفونة الرأس لابد أن تصل إلى الأطراف خاصة وان المحاصصة تطغي على الحياة السياسية والدبلوماسية. فاذا كان القائد في الداخل مصاب بمرض التخلف، وهلوسة الطائفية، فأن السفير يقتدي بالداخل بمنطق الأواني المستطرقة.
أصبحت الدبلوماسية العراقية بلا علم وفن وبروتوكولات وإتيكيت وذوق ، فهي تسير بمنهج المحاصصة القبلية الحزبية، فترى في السفارات سفراء من كل لون وقبيلة وحزب وقومية لا يخضعون لنظام الدبلوماسية وقوانينها، وإنما يخضعون لشيخ الحزب، واحياناً لولاء الدول؛ جنسيات مزدوجة، وولاءات متناقضة، وأصول مستعربة تتحرك بالريموت بأوامر من الداخل والخارج، وتخصصات لا مكان لها من الأعراب، وشهادات مزورة، وبعضهم يتكلم العربية المُطعمّة بالأعجمية ،أو الإنكليزية بلكنة الجنوبية والغربية والشمالية ، وعوائل وأقارب السياسيين تزدحم بهم مكاتب السفارة، وسفير خريج الشوارع الخلفية يكتشف فجأة أنه في وزارة الخارجية!
ويلخص الدبلوماسي المخضرم محمد الحاج حمود الوكيل السابق لوزارة الخارجية العراقية مأساة الدبلوماسية في اختيار السفراء على النحو التالي: تأتينا قوائم من الأحزاب السياسية بأسماء مرشحيهم، فنقوم بأجراء مقابلات معهم، فنختار ما يصلح منهم، ولكننا نتفاجأ بأن الأسماء المرفوضة هي التي يوافق عليها مجلس النواب، وهؤلاء لا يستحقون وظيفة عادية في الوازرة، لأن اغلبهم جهلة ومزورو شهادات. وبأعتراف معظم وزراء الخارجية بأن دورهم هامشي في اختيار السفير؛ فلا رأي لهم، ولا أحد يأخذ باستشارتهم، لأن المحاصصة الطائفية هي الحاكمة في الوزارة.
وفي أطرف تعليق لأحد رواد التواصل الاجتماعي قال فيه: ليش يابا هذه الضجة على السفير المسكين، ترى البلد كله فضائح، الحُضن لا بو موزة؛ سياسي يَحضُن سياسي رغم العداوة. الكُل يحضن الكل بالحلال والحرام. إلا العراق هو الوحيد المنسي اللي ما حد يحضنّه!


[email protected]