هذه المرة، سأزاوج بين العلم والمخيلات الشعبية، بين تفسير العلم ومنطق التحليل والتفسير، وبين الاعتقاد الشعبي للناس، وسخريتهم من الواقع، بما يخُص تعلق الجماهير بالبطل الفردي، وهوس الانجذاب للأوهام والأفكار الخيالية والغيبية، وتلذذهم بالمآسي والإحزان.
في التاريخ نرى سجلات تهوي فيها شخصية المواطن المقهور ومكانته إلى الحضيض، بينما تتعاظم صورة الحاكم، وتتزايد نرجسيته ويصبح هو المُلهَم والمخلِّص والمنقذ، ولا أحد غيره قادر على حماية أسوار الوطن.

وبتفسير العلم، يرى (غوستاف لوبون) في كتابه (سيكولوجية الجماهير) بأن بناء (القطيع، الرعاع) يتم من خلال حقنه بالأفكار والمعتقدات المريضة التي تدخل ضمن عقله اللاواعي، مما يجعل الجماهير في كثير من الأحيان تقوم بأمور خطيرة أو غير متوقعة ومتقلبة، وهذا ما يحولهم إلى " قطيع" هامشي وشاذ عن المجتمع، حيث يعانون من نقص الانتماء وعدم المسؤولية.

وهذه الجماهير عادة لا تبحث أبدا عن الحقائق إنّما عن الأوهام فقط، إذ يتمّ إقناعها والسّيطرة عليها من خلال الوعود المضخّمة مثلا أو من خلال عبارات تضرب أوتارا حسّاسة تنسلّ إلى لا وعيها بحكم الدين والمعتقدات الّذي تنتمي إليه، لكنّ المحاجّات العقلانية ومحاولة معاملتها بالحقائق والبراهين لن يؤدّي إلّا إلى تنفيرها وليس جذبها.

بالمختصر، فالصفات الخاصة للجماهير النفسية تتمثل؛ بالتوجه الثبوتي لأفكار وعواطف الأفراد الذين يشكلونهم وذوبان شخصيتهم فيها، واللاوعي يهيمن دائما على الجمهور، وإمحاء الحياة الدماغية أو العقلية وهيمنة الحياة النخاعية، وانخفاض مستوى الذكاء والتحول الكامل في العواطف.

بينما "ميكافيلي" في كتابه (الأمير) يعلم الحكام فنون مهارة السيطرة على عقول الرعية، وتنوميها مغناطسيّاً، من مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" و"السياسة لا علاقة لها بالأخلاق". فاذا أردت الوصول إلى غايتك؛ لا بد من السيطرة على الحشود، باللعب على العواطف والانفعالات والغرائز، سواء بالأكاذيب والتزييف أو بالحقائق وأنصافها. والأهم جعل الدين أداة ضرورية لإدارة الناس.

والمشهد العراقي، لا يختلف عن صوّر التاريخ المختلفة، هنا وهناك، لكنه يتسم بالغرابة والإثارة والتناقضات. ربما يعود إلى تراكمات الوجع والحزن والصراعات والحروب والفيضانات والأديان والطقوس المتنافرة والحادة التي أصبحت تُشكل شخصية العراقي، وجيناته الاجتماعية.

وربما كان الوردي محقاً في توصيف الشخصية بأنها تعاني من الازدواجية والتناشز الاجتماعي، فالعراقي أكثر هياماً بالمثل العليا وأكثرهم انحرافا عنها في واقع حياته. صعب المراس، نرجسي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب كما يقولون، ولا يرضى في الواقع حتى ولو تشعل له عشرات الشموع. شعب متناقض حد التطرف يبني الجسور المعلقة وصواريخ الحسين ويخترع له السيوف للتطبير، ومآتم الأحزان والنحيب بحجة الوفاء والتضحية والجهاد.

ومثلما قلت في مقالات سابقة، بأن الشخصية العراقية متطرفة جداً في الصبر والاحتمال والطيبة، تثور بسرعة وتنطفئ أسرع، ومزاجها متقلب بانتهازية المواقف؛ فتجد شيوعياً أصبح صدرياً، وبعثياً دعوجياً، وشيخ عشيرة يرقص في كل الأنظمة بدون شرف العقال، ومعمماً يشرب الشاي صباحاً والخمر ليلاً، وشيخاً يهدم جامعاً للصلاة لبناء مولاً تجارياً، وأحزاباً دينية تبكي ليل نهار على الحسين وتبني المراقص وتنهب الخمس وخزائن الدولة.

شعب لا فواصل بين فئاته ونخبه إلا ما ندر، كثير منهم مصاب بداء العظمة وجنون النرجسية، بل تجد أحيانا فقيراً من أصحاب البسطات أكثر رقياً في أفكاره من مثقف تفوح منه رائحة الطائفية العفنة. لكن الجميع يشترك بالشكوى والتذمر؛ نخب منكفيّة على نفسها، بارعة في حذلقة الواقع بالتنظيرات الثقافية المعتلّة، وجمهور مغيّب بالفتاوي والطقوس الكاذبة.

مع الأسف؛ شعب يعبث بالحياة، ويغلق منافذ المستقبل عليه، وعلى أجياله بممارساته الفوضوية والعاطفية، شعب يفترس نفسه ويفتك ويمقت ذاته. ويذبح بعضهم البعض بلا شفقة باسم الطائفة أو طمع المال. لا أدرى كيف تتناسل المآسي والأحزان والفواجع في جينات هذا الشعب كما لو أنه يستعيد أساطيره السومرية، ويستعيد نواح الماضي.

بنظرة أوسع للمشهد، وليس من باب الذم المقصود، ما نراه حزيناً يفطر القلب، تحول شعب إلى "قشة" يتحرك بقصاصة ورق، وتغريده عابرة، وفتوى مريضة بالمذاهب والطوائف. تحركه هلوسة جاهل يكره الجمال، فتجعله يعيش غيبوبة سادية الماضي، ونوبات الجنون الأعمى. شعب حير العالم ودوخ الدنيا!

وبعيداّ عن العلم، وقريباّ من تخيلات الشعب وأفكاره ونظرته للواقع، فأنك تجد غرائب التعليقات والأفكار والسخريات اللاذعة في مواقع التواصل الاجتماعي التي تعكس شخصية الفرد العراقي وطموحاته وآماله، مثلما تجد تنمراً في الألفاظ، وعنفاّ متطرفا، وكذلك تهذيباً في سخرية القول؛ كوكتيل عجيب غريب مطرز بالوجع واليأس والأمل.
كتب أحدهم يقول "كيف تريد من شعب يغرق بالطقوس الدينية والمخدرات ولحم الحمير أن يستيقظ مبكراً، وعقله في رأسه. العقل مغيّب ياسيدي!"
ويرد أحدهم عليه: "أخوي الأرجنتين هي السبب، أمس القت الشرطة العراقية على اللاعب ميسي ومارادونا وبحوزتهما كيلوين هيروين على الحدود، وتبين إنها من جمهورية الأرجنتين الإسلامية".

وتقرأ تدوينات لاذعة تنتقد السياسيين مستخدمين اسم "حمد" بدلاً من اسم الشخصية السياسية المقصودة، فلم يسلم الكاظمي من السخرية؛ "حمد عاف الرياسة وكاعد هنانة، حمد سوة الدرب بغداد حنانه" وآخر أنتقد جميع الساسة في العراق: "حمد يذبح بولدي لعين جيراني. حمد عاف العراق وصار إيراني“، ويضيف آخر: “حمد طول النهار ينادي بالإصلاح. حمد بالليل سرق الخزنة والمفتاح".

لكن أغرب الأخبار والتعليقات المتداولة في المواقع الإلكترونية هو موضوع لحم الحمير الذي انتشر في مطاعم العراق مؤخراً، حسب تقارير الشرطة والأمن الوطني، حيث تم ربطه مع الدين المسيس والمخدرات ليكون العامل الثالث في سر غيبوبة الشعب.
وملخص القصة الحقيقية، التي تم روايتها من قبل طبيب أسنان بأنه أكتشف أنه أكل خلال سنوات "زمال ونصف" كباب من أحد مطاعم الكاظمية المعروفة، رغم وجود القانون الصارم للنظام السابق، لذلك من المحتمل في ظل فوضى اليوم، وانعدام القانون، أن يكون كل فرد عراقي قد تناول "درزن لحم حمير" من الاحتلال لحد الآن. وربما كان هذا هو السر العجيب الذي يجعل العراقي يصفن أربع سنوات لينتخب نفس الحمير!


[email protected]