من خلال قراءتنا لشخوص وحوادث تاريخية في مراحل العصور الأولى السالفة للعرب وحتى وقتنا الحاضر مرورا بالعصور الإسلامية الأموية والعباسية حتى سقوط بغداد وما تبع هذا السقوط من سيطرة أقوام شتى منهم الرعاع والمغول والتتار من طوائف الجوار وغير الجوار، برزت شخصيات عاثت في مفاصل حياتنا فسادا وقتلا وتدميرا لكن مؤرخينا – غفر الله لهم سوءاتهم – قاموا بصقل وجوههم وإظهارها ناصعة كأنها القمر البدر في إشراقته وإبرازهم على انهم عيّنة شريفة راقية أسندت لها الأدوار ليكونوا النخب الأصلح ولكنهم واقعا هم ابعد عن الصلاح ، ففيهم من المفاسد في الحكم وتعذيب الملأ الاكبر من الناس والرعية ما يشيب له شعر الرأس ولهم مخازيهم الواسعة التي لوّثت عصور التاريخ ، كل ذلك بسبب مؤرخينا البارعين في تغطية العيوب فأظهروهم لنا رجالا تقاة وأبطالا عظاما وعقولا سامية، كل ذلك طمعا في إرضائهم وخوفا من سطوتهم وتقربّا لبلاطهم ونيلا لحظوتهم وأنا هنا لا استثني السلطات الحاكمة أعرابا ام محتلين أغرابا قبل وبعد سقوط بني العباس وعاصمتهم بغداد .

نعلم تماما ان من كتب التاريخ ليس الشعب ومثقفوه ومؤرخوه وأخياره انما هذا التاريخ الذي مازلنا نتتبع أخباره دوّنه الملوك والخلفاء والسلاطين والقادة والمحتلون وأقلامهم المستأجرة والمقرّبون منهم من الحاشية المثقفة المنتفعة والتي لا تتورع من قلب الحقائق وصبغتها كما يحلو لهم بإشعار من السلطة التي تختار لهم ايّ مسلك يسيرون عليه.

وكم من الشخصيات الأكثر تأثيرا والأعلى مقاما عقليا والأنقى نفْسا وعفة فما زالت في الظل ومنهم من طمرهم النسيان ووضعوا في رفوف الإهمال وربما نعتت بانها شخصيات منحرفة زائغة لا لشيء إلاّ لأنها لا تسير على النمط الذي يريدونه لها، وكثير منهم ممن يمتلكون آراء حرة وتفكيرا صائبا ولديهم الحلول والبدائل الأرقى للخروج من الاطر المرسومة سلفا.

وكثيرا ما ظهرت دعوات لإعادة كتابة التاريخ في عصرنا المسمّى بالحديث - واين منه الحداثة - أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين وهذه الدعوات كانت متأثرة بشكل واضح بعصر التنوير في اوروبا وسطوع إشعاع العقلانية لأجل وضع الأحداث في مكانها الصحيح بموضوعية بعيدا عن الميل والمحاباة او المعاداة لإيضاح الصورة دون اية رتوش او مما نسميه الان "فوتوشوب التزييف" ولكن مثل هذه المشاريع الثقافية الصائبة تبقى متعثرة طالما لا توجد مؤسسات ثقافية كبرى موضوعية في رؤاها تتوخى غربلة شوائب فكرنا الضارة وغير المستساغة والمعيبة احيانا لإزاحتها باعتبارها أداة لتلويث العقل وإفساد التوجه السليم لتكوين قيم حضارية جديدة تنهل معينها من الحداثة والتجديد في الفكر وبنفس الوقت تأخذ من التاريخ أضواءه اللامعة المشرقة ومواقفه السديدة السليمة لتكون دفعا ووقودا نظيفا لتشغيل عقل الانسان المعاصر وصولا الى مستقبل زاهر.

وكم من الشخصيات التاريخية وضعناهم في الصف الاول من مدارج المهابة والتقدير والتبجيل واعتبرناهم مثلا اعلى وهم لا يستحقون سوى القيعان مكانا لطمر وإخفاء سلوكياتهم المشينة والمخزية وكم من المبدعين وصفوة رجال العلم والادب النابهين عملنا فيهم قتلا ونفيا وتضييقا وخرسا لألسنتهم مع انهم كانوا عقولا متنورة تهدف الى نماء وتطوير مجتمعاتنا غير ان الساسة ومن والاهم من حاشية الخلفاء والملوك والوزراء كانوا بالمرصاد لكل عقل ناجز ومثمر.

هؤلاء المبدعون والمجددون والعقلانيون الذين حوربوا واتهموا بشتى الاتهامات كالزندقة والكفر والخروج على الملّة وذوي البدع وحرقت مؤلفاتهم واستهجنت آراؤهم؛ وحتى النزر اليسير من أفكارهم العقلانية التي وصلت الينا أخذناها من كتب ومؤلفات أعدائهم وبرفقتها الاتهامات والنعوت والشتائم من غرمائهم ولم يصلنا كلّ ما قالوه، هؤلاء العقلانيون ذوو الرؤى المختلفة عن السائدة كانوا يهدفون الى زعزعة الثوابت والقناعات الخالدة وتحريكها من صنميتها، فهل كلّف احد من مفكرينا السابقين وحتى اللاحقين من اظهارها صافيةً مغربلةً ونقيّة من الشوائب وما علق فيها من قذع الالسن المعادية لهم؟؟!

وبالرغم من تطور الفكر العقلاني وكثرة مناصريه في عصرنا الحديث قياسا بالعصور السابقة فلا زالت جيوش ورؤوس وقادة سلطة التخلف من عتاة وذيول الدكتاتورية السياسية وعمائم وقلنسوات الاثنية يتحكمون في مجتمعاتنا ويقفون بالمرصاد امام اية بادرة فكرية مخلّصة ومنقذة؛ والاّ بماذا نفسّر تنامي دعوات التكفير لكثير من رعاة الاصلاح والتنوير عندنا وتشكيل محاكم ما يسمى بالحسبة وجملة الفتاوى التي تظهر فورا للعيان امام كل رؤية تنويرية صالحة لنا وكأن ما يجري الان من حوادث إجرامية قامت بها الاثنية والرجعية والدكتاتورية امتداد لما جرى قبلا من اضطهاد وعنت ومواجهة شرسة للعقلانية ودعاتها الاوّلين كما يجري الان للمعاصرين فلست بحاجة الى التذكير بما حصل لفرج فودة ولنجيب محفوظ ونصر حامد ابو زيد وآخرها قبل بضعة أيام لسلمان رشدي وغيرهم يماثله تماما ما جرى قديما في العصر الاموي للمتنور"الجعد بن درهم" صاحب مقولة (اجمع للعقل) و"الجهم بن صفوان" الداعي الى الحرية الانسانية ورافع لواء حرية المعتقد و"معبد الجهني" الذي وصفوه بالمبتدع حين صبّ جام غضبه على القدَريّة وشلّ الارادة العقلية ووقف موقف الشجاع المعاند امام أعتى عقل همجيّ مرعب وسيف يتلذذ بالقتل في شخص الحجاج بن يوسف الثقفي الذي حبسه وقتله شرّ قتلةٍ.

اما في العصر العباسي فالحديث يطول بشأن محاربة العقلانية والتنوير بدءا من ابن المقفع وابي بكر الرازي واخوان الصفاء وابن الراوندي والحلاّج والتوحيدي وغيرهم الكثير مما يصعب حصرهم في مقالة قصيرة.

قرأنا في اسفار التاريخ كمّا هائلا مما كتبه المؤرخون فأحسسنا ان غالبيتهم مجرد مؤرخين للماضي وينطوون في داخله مثل جنين عالق في حبلٍ سرّيّ للسلطة وقلما نجد أحداً من المؤرخين من اقتطعه وكأنه يتشرنق فيه ويأنس العيش داخل أطره لأنه يأتمر بأوامر سلطته وهي من تحدد الطريق له ليسير على هداها او قل -- على ضلالتها وأعوجاجها -- ونادرا ما نجد من يحلل احداثه ووقائعه من سلفنا الاول لسبب بسيط انهم جعلوه لغرض التكسبّ على غرار قسم كبير من الادباء والشعراء الذين نذروا كتاباتهم للمديح بهدف الحصول على المال والجاه والحظوة والوظيفة المرموقة وأقلّها ان يكون نديما لهذا الوزير او ذاك الخليفة ومن المقربين للأمراء والقوّاد حتى أضحى قائد الحملة العسكرية القاتل المدمر الهاتك للأعراض فاتحا للفتوح وصار حسامه المدمّى بدماء الابرياء سيف الله المسلول والمخرّب والموسّع للمجازر يوصف بسيّد الثغور ومحررها الذي لا ينازع كي ينال الخلود ويرحمه التاريخ ويسطّر انتصاراته على حروف من ذهب؛ وما هي صولاته الحربية الاّ انكسارات إنسانية وأعمال وحشية وهتك لأعراض النساء وسفك رهيب للدماء وتعامل في منتهى الدناءة للمرأة سبيا وبيعا في أسواق النخاسة وأيامى يأخذها الغني الموسّر لتكون جاريته وملك يمينه وحليلته في فراشه رغما عنها بلا ايّ عقد نكاح او حقوق تنالها المرأة؛ فمثل هذا التاريخ الذي يكتبه المنتصرون ويستثمره الأغنياء والأمراء والخلفاء وما على الرعية الاّ الرضا وتقبّل ما جاء فيه لا لشيء سوى ان الرابح وحده هو من يكتب التاريخ ويكتب انتصاراته على هواه كي تخلّد ويضفي على عدوّه كل سمات الشرور والإذلال والشيطنة ويحاول تبرير ما اقدم عليه على انها عمليات مشروعة يقتضي ترسيخها، ولا ينسى هذا الرابح ان يدفن الكثير من الأسرار غير المعلنة وردمها في قيعان الارض مثلما يدفن أعداءه الموتى، بل لا يكتفي الرابحون المنتصرون بقتل أعدائهم انما في تشويه سمعتهم واعتبارهم هم المجرمون البادئون بالقتال وهم من اشعلوا الحرب بذنوبهم وعصيانهم وينال الرابح براءته في الحياة وفي مدوّنات التاريخ؛ فالخاسر يموت مرتين، مرة بالمعركة وأخرى في التاريخ الذي لم يرحمه فيكون الخلود والمجد للاقوى وان كان ظالما، تلك هي عمليات تزوير التاريخ وقلب الحقائق وتشويه الصور وتعمية الوقائع.

نكاد نجزم باننا لم نلحظ في كل أسفار ارثنا السالف من يكتب التاريخ حبا وإبرازا للحق وإظهارا للحقائق وكم يكون التاريخ هزيلا وغير ذي فائدة بلا رؤية تلك الحقائق... أليس من اشتراطات المؤرخ المنصف الموضوعي ان يملك عقلا باحثا عن ومضات الحق ليوصل إشعاعها الى الملأ وعيون تلقف كل ما هو جميل من مشاهد الرقيّ والبروز الانساني والاخلاقي ضمن الحوادث التاريخية ليظهره الينا بائنا رائقا ولكن اين نجد مثل هذا المؤرخ الامين السليم الطوية الذي كتب وسطّر الوثائق الصادقة وتحفظ للناس مواقفهم عبر التاريخ لتتعلم منها الاجيال المقبلة دروسا من خلال فرز النافع والمفيد مما وجد في التراث.

تلك هي الذاكرة التاريخية التي نريد، ذاكرة امينة منصفة ذات عيون ثاقبة بصيرة ترى الضوء وتترك العتمة وتحفظ أتعاب الشعوب وبطولاتهم الحقة لا المزيفة وتنبذ الاساءة وتفضحها وتوصل لنا كل ما هو سليم وتنأى عن السقيم وتسطّر العِبَر والمآثر النبيلة وتتجرد من الهوى والميل والكيل بمكاييل متعددة وتتنزه عن المطامع والمطامح وتبعد كليا أهواء سلطة المال وتكون شجاعة امام رعاديد الخوف والتهديد والوعيد .

مثل هذه المناهج العاثرة والاسقاطات السقيمة تبرز اثارها اليوم في مجتمعاتنا التي تتنازع فيما بينها فهناك التنويريون وهم القلة القليلة عندنا لا يستطيعون مجابهة السلفيين والرجعيين والمغرمين بالتراث خيرهِ وشرّهِ من الكثرة الكاثرة التي تتفاقم مثل كرة الثلج فما زالت العقلانية تتعثر في مشيتها ليس لان اقدامها معوجّة بل ان طريقها ملئ بالمخاطر وهناك من يتربص بهم ويقنص نخبتهم قتلا او ترهيبا او تهديدا او مقاضاة من اجل اسكاتهم تماما مثلما كان يجري قبلا فلا المسار أعيد ترتيبه وتسويته ليكون معبّدا سالكا وستظل المنازعات المذهبية والاثنية والقومية هي السائدة وستبقى سمات الكراهية والعداء واعتبار الآخرين أندادا. والغريب ان تلك الشرائح الجامدة من هؤلاء تقوى يوما بعد يوم ما دام ضيق الافق قائما والصدر يضيق ولايتقبل الانفاس المنعشة النقية مع انها هي العلاج الناجع الذي يشفينا ويغذينا بالعافية الوافرة.

يبدو اننا ما زلنا نستسيغ الاجواء الخانقة ولم نعتد بعد على استنشاق اوكسجين الحقائق وبقينا معتقلين داخل نصوص تاريخية مقدسة او بالاحرى قدّسناها بلَها وجزافا وسرنا وراء أحكام ورؤى سالفة غير قابلة للنقاش ويا ويلنا لو تجاوزناها او أضفنا ما يغنيها او حذفنا ما يسئ اليها او تعديل ما اعوّج منها لتسير حياتنا على ما يرام وخنعنا لأحكام فقهية يمنع مناقشتها، وانبهرنا بطروحات فكرية قالها الاوّلون واعتبرت من الثوابت وما عليك الاّ الإتباع والإذعان والخضوع وكل المحاولات التجديدية القليلة التي قام بها بعض المصلحين المحدثين وهم قلّة امام جيوش الجهالة الهائلة العدد والعدّة قد اصبحت قبض ريحٍ امام هذا الامتداد المرعب من النزاعات العرقية والطائفية الان؛ فالمقبل اكثر خطورة لا يبشّر بالخير أبدا ومن السهل التكهّن بعواقبهِ فهناك في الافق القريب لا البعيد ريح صرصر حمراء وغبراء عاصفة آتية حتما ان لم نقم بتشكيل وإنبات مصدّات رياح قد تقلل نوعا ما من مؤثراتها الخطيرة.

[email protected]