مع تواصل الاحتجاجات الشعبية الإيرانية ضد ممارسات القهر التي ينتهجها النظام، هناك العديد من الأمور التي يمكن استخلاصها من المشهد الإيراني الراهن في مقدمتها تحطم جدار الخوف الذي كان يحول دون انضمام فئات كثيرة من الشعب الإيراني للإحتجاجات الشعبية السابقة، وهذا التطور هو بحد ذاته منعطف نوعي في علاقة النظام بالشعب الإيراني، لأن انهيار جدار الخوف من القبضة الأمنية الشديدة كان بداية انهيار أنظمة حكم عديدة في منطقتنا بسبب تواصل الضغط الشعبي.

أهمية هذا التطور تكمن في أن زوال الخوف من الأنفس يعني أن الاحتجاجات والغضب الكامن لن يظل كذلك، بل سيتحول إلى حالة احتجاجية مزمنة يعانيها النظام، وهو أمر كفيل بتآكل قدرته على البقاء واستمرار قدرته في الحفاظ على تماسكه في مواجهة الضغوط الداخلية المستمرة. وأبسط النتائج المتوقعة لهذه الحالة هو دخول النظام في حالة من الضعف وبروز الظروف المواتية لحدوث انقسامات وانشقاقات داخل النظام إما فكاكاً من مصير محتوم، أو سعياً للبقاء من خلال طرح سلطوي جديد سواء عبر انقلاب داخلي أو تحالفات تمسك بزمام السلطة وتقوم بتحجيم نفوذ المتشددين والمتطرفين داخل النظام.

في جميع الأحوال لا يبدو المزاج الإيراني العام مواتياً لقبول فكرة تغيير جلد النظام أو أي محاولة لتجميل الوجه من داخل النظام نفسه، فالوجوه جميعهاً معروفة وسئمها الإيرانيون وبات من الصعب الوصول إلى صيغة تقضي بقبول حلول وسط تنهي الحالة الاحتجاجية الحالية، فالتضحيات التي قدمها الإيرانيين تجعل من الصعب التراجع للوراء، أو إمساك العصا من المنتصف، فالكل يعرف أن إخماد الاحتجاجات سيعقبه الزج بالآلاف داخل المعتقلات والسجون، وبالتالي فإن الأمر يمضي باتجاه اللاعودة سواء من جانب النظام الذي يستخدم الحد الأقصى من قبضته الأمنية، أو من جانب المحتجين أنفسهم الذين لم يعد أمامهم سوى مواصلة المشوار في ظل انضمام تلميذات المدارس الصغيرات والنساء الإيرانيات اللاتي كن المحرك الرئيسي للثورة ضد الشاه عام 1979.

لن تعود إيران كمان كانت بالأمس، صحيح أن فرص النظام في السيطرة على الأوضاع الأمنية تبقى ـ حتى الآن ـ قائمة وكبيرة، ولكن الشعب الإيراني ليس هو ذاته الذي كان قبل مقتل مهسا أميني، فالغضب هذه المرة يفوق المرات السابقة كافة، ومستوى الاحتقان الاجتماعي مرتفع للغاية ويتصاعد، والمطالبات لم تعد تقتصر على إصلاحات اقتصادية ومعيشية بل تركز على تغيير النظام، وتهتف بقوة ضد المرشد.

الحقيقة أنه من الصعب بناء توقعات متماسكة بشأن مستقبل النظام الإيراني ومآلات الاحتجاجات الراهنة، ولا نميل هنا إلى بناء تقدير غير دقيق للموقف، لاسيما في ظل غياب المعلومات الدقيقة من الداخل الإيراني بما يسهم في صياغة سيناريوهات قريبة من أرض الواقع، ولكن ما يهمني في هذا كله هو نقاط عدة أولها أن إيران ـ بغض النظر عن مصير النظام ـ باتت على أعتاب تغيير نوعي يصعب تقدير مداه وحدوده في جميع الأحوال، ولكن السيناريو الأخطر في هذا الشأن هو نجاح النظام في إخماد موجة الاحتجاجات، وعامل الخطورة هنا ينطلق من أن النظام لن يقدم ـ على الأرجح ـ تنازلات للبقاء، بل سيمضي في اتجاه الرهان على القبضة الأمنية والاستثمار فيها وتعزيز نفوذ المتشديين من أجل مزيد من السيطرة على مفاصل الدولة، بما يحول إيران إلى برميل بارود يغلي على الضفة الأخرى من الخليج العربي، وهذا الأمر لا يصب على المدى البعيد في مصلحة الأمن والاستقرار الإقليمي ليس فقط لأنه ينذر بحدوث انفجار داخلي في أي لحظة، ولكن لأنه سيدفع النظام ـ على الأرجح ـ لافتعال المزيد من الأزمات وإشعال المزيد من الحرائق لمحاولة إلهاء بقية الشعب الإيراني عما يحدث بالداخل وتبرير ممارسات العنف المتوقعة في ملاحقة معارضية وخصومه والادعاء بأن هناك مؤامرة خارجية وغير ذلك من المزاعم التي لا يكف النظام عن ترديدها.

ثمة سيناريو آخر يتعلق بالمرحلة المقبلة إيرانياً، وهو دخول البلاد في حالة من الفوضى والاضطرابات في حال تصاعد الاحتجاجات وخروجها عن السيطرة الأمنية، وهو سيناريو صعب الحدوث نسبياً ولكن يجب أخذه بالحسبان في كل الأحوال قياساً على تجارب الماضي القريب في دول شرق أوسطية أخرى، وانطلاقاً من أن غياب المعلومات وصعوبة الحكم على الأوضاع الأمنية بشكل دقيق يفتح الباب امام تدارس مختلف السيناريوهات، لاسيما أن إيران دولة ذات كثافة سكانية ضخمة، وبالتالي يجب التعامل مع أي تطور داخلي فيها بدقة وحذر شديد لأن الشظايا المتطايرة من قنبلة كبيرة يمكن أن تصيب نطاقاً جغرافياً واسعاً.

الخلاصة أن مشهد الغضب الإيراني هو درس قوي للنظام، الذي يجب عليه مراجعة سياساته واستخلاص العبر مما يحدث وتجنب حالة الإنكار التي يعيشها بالقاء الاتهامات وتوزيعها جزافاً على إسرائيل تارة وعلى الولايات المتحدة تارة أخرى وعلى الطرفين مجتمعين تارة ثالثة، فالعقل يقول أن الملايين من الأجيال الإيرانية الشابة لن تستكين لحالة القهر والتردي المعيشي لدولة يفترض أن تكون غنية بحكم مواردها الطبيعة.