بالنسبة لمراقبي الشأن الإيراني، لم يكن هناك أي مفاجأة في إعتراف طهران للمرة الأولى بأنها زودت روسيا بطائرات مسّيرة، وهو الإعتراف الذي حاولت التخفيف منه بالإشارة إلى أنها أرسلت هذه الطائرات قبل أشهر قلائل من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، وأن عددها "قليل".
هذا الإعتراف ينطوي على دلالات مهمة للغاية على صعيد فهم السلوك السياسي الإيراني، وهذه هي إحدى النقاط المهمة بالنسبة لي ـ كباحث ـ لأن الإصرار الإيراني على نفي وجود مسّيرات إيرانية في أوكرانيا لم يكن منطقياً لاسيما في ظل وجود تأكيدات غربية ـ أوكرانية على مشاركة هذه المسّيرات في عمليات قصف كبيرة داخل أوكرانيا، علاوة على أن نسف الرواية الإيرانية، بدلائل مادية من حطام مسّيرات أو غير ذلك، كان سيحدث إن آجلا أو عاجلاً.
تركيزي هنا لا يتمحور حول دور إيران في ما يحدث بأوكرانيا، رغم أهميته ودلالاته الخطيرة، ولكنني اتطرق إلى فكرة الكذب والمراوغات الإيرانية في التعامل مع الوقائع مهما كانت واضحة أو مدعومة بدلائل، لأن البعض ممن يقعوا في فخ الدعاية الإيرانية يرون أن النظام الإيراني لديه القدرة على إعلان كل تصرفاته من دون خوف أو قلق، وهذا يتنافر تماماً مع الحقيقة، التي يدركها جيداً المتخصصون في الشأن الإيراني والخليجي.
يكفي أن وزير الخارجية حسين عبد اللهيان، الذي تصدى بالنفي المتكرر لكل تأكيدات مشاركة المسّيرات الإيرانية في أوكرانيا، هو نفسه من أقر واعترف بالمشاركة، واللافت أنه لا يزال يعتقد أن لديه رصيد من الموثوقية بحيث يمكن أن يجد من يصدقه حين يقول أن هذه المسّيرات أرسلت إلى روسيا قبل بدء الحرب وليس بعدها، وأن عدد هذه الطائرات "قليل"ـ في محاولة واضحة للهبوط من أعلى الشجرة التي صعد إليها بتكرار النفي مراراً وفي مناسبات مختلفة.
النفي هنا لم يقتصر على وزير الخارجية الإيرانية، فالتقارير الإعلامية تشير إلى كلمة للمرشد الأعلى علي خامنئي نفسه، وهو ينكر ضمناً اتهامات الغرب بإرسال مسيّرات إلى أوكرانيا، ويعتبر ذلك ضمن "أكاذيب وتضليل الغرب الذي كان يقول من قبل إن صور الطائرات المسّيرة الإيرانية مفبركة ومعدلة بالفوتوشوب"، حيث تشير التقارير الإعلامية إلى ان هذه الجزء من كلمة خامنئي قد تم حذفه بعد توزيعه على وكالات الأنباء، وهذا الأمر له أهميته الاستثنائية، فخامنئي الذي يشارك في حملة النفي والإنكار هو ذاته من أصدر فتوى "تحريم" السلاح النووي، التي يستند إليها البعض في منطقتنا وأيضاً في الغرب، عند الحديث عن نوايا إيران وجديتها في امتلاك سلاح نووي، وقلنا قبل ذلك أن هذه "الفتوى" لا يجب فهمها بمعزل عن مبدأ "التقية" السياسية حتى لا نفاجىء يوما ما بأنها كانت ضمن خطط تحصين الجهود النووية الإيرانية وحمايتها كي لا تتعرض لإجهاض استباقي من "الأعداء".
نعلم جميعاً أن مثل هذه الممارسات مسألة واردة وبشدة في عالم السياسة، وهي لعبة مكشوفة وتمارسها الكثير من الدول والأنظمة بغض النظر عن تأثيرها وثقلها الإستراتيجي، فالسياسة ليست عالماً مثالياً ولا يمكن الإعتقاد بأن هناك مكاشفات وشفافية تامة في مختلف الأمور، فقد تبدو هذه الممارسات في بعض الأحيان الوسيلة الوحيدة للتملص من المسؤوليات والمحاسبة أو التداعيات السياسية والقانونية عن موضوع أو حدث ما، وهذا كله معلوم، ولكن ما يهمني في هذه الجزئية هو ضرورة الإنتباه إلى هذه الممارسات الإيرانية تنسحب بالضرورة وبالتبعية على السلوك النووي الإيراني.
المؤكد أن تاريخ العلاقات بين النظام الإيراني والمنظمة المعنية بمراقبة أنشطة إيران النووية (وكالة الطاقة الذرية) ملىء بالأكاذيب ومحاولات الخداع التي يمارسها الإيرانيون من أجل الحد من قدرة خبراء المنظمة على التعرف إلى حقيقة البرنامج النووي الإيراني وطبيعة أنشطته ومستوى التطور في هذا البرنامج.
من السذاجة الإعتقاد بأن إيران يمكن أن تمارس الشفافية في علاقتها بوكالة الطاقة الذرية، ولذلك فإن علينا التيقن من أن المخفي في برنامج إيران النووي يفوق المعلن بمراحل، وهذا بديهي، ومن الإفراط في التبسط والتهوين مع هذا الملف الإعتقاد بأن إيران التي تركز في الآونة الأخيرة على تطوير برنامجها الصاروخي والمسّيرات التي باتت سلاحاً إستراتيجيًا مؤثراً في قدراتها العسكرية، تنتظر ضوءاً أخضر من القوى الدولية كي تحدد لها سقف تخصيب اليورانيوم المسموح.
باعتقادي أن النفي الإيراني كان مقصوداً لتحقيق هدف ما، والإعتراف مقصود أيضاً لتحقيق هدف لا يقل أهمية عن الأول، فالإنكار كان مطلوباً حين كانت مفاوضات الإتفاق النووي الإيراني لا تزال على قيد الحياة رغم كل ما كان يحيط بها قبل أشهر من عثرات وعراقيل، حيث كانت إيران تراهن على تنازلات الشوط الأخير في المفاوضات من أجل الفوز بصفقة جديدة تتيح لها الإفراج عن مليارات الدولارات المجمدة بموجب العقوبات الأمريكية، ولكن تلاشي بصيص الأمل في هذا الموضوع وتدهور العلاقات الإيرانية ـ الغربية لاسيما مع الثلاثي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا)، التي كانت تلعب دوراً مهما في تقريب وجهات النظر وطرح البدائل ولعب دور الوساطة أحياناً بين طهران وواشنطن، دفع إيران في اتجاه مضاد، حيث انقلبت حسابات الربح والخسارة في نفي أو تأكيد توريد مسّيرات إلى روسيا، حيث باتت الكفة تميل لمصلحة الإعتراف بذلك ولو بشكل تدريجي، من أجل إيصال رسالة للغرب بأن طهران تصطف إلى جانب روسيا، وأن لديها قدرات ردع عسكرية يمكن أن تهدد مصالح الدول الغربية، أي أن طهران انتقلت من مربع محاولة اللعب على الحبال إلى مربع الإنحياز الصريح.
الخلاصة أن النظام الإيراني كان ينفي الرواية الغربية بشأن المسّيرات حين كان النفي يصب في مصلحته ولو بشكل محدود، أما الآن فلم يعد للنفي داع بعد أن دخلت صفقة الإتفاق النووي في نفق مظلم، لن تخرج منه على الأرجح حتى نهاية ولاية الرئيس بايدن، لاسيما في ظل وجود إحتمالية كبيرة لفوز الجمهوريين في إنتخابات التجديد النصفي وسيطرتهم على مجلسي الكونجرس، ومن ثم آثرت إيران التراجع عن النفي والإعتراف بالأمر على سبيل إستعراض قوتها وإظهار دورها المتنامي كقوة قادرة على إرباك حسابات القوى الكبرى بتدخلاتها في ملفات تجاوزت الإطار الإقليمي، رغم خطورة تداعياته، وباتت تطال بشكل مباشر ومؤثر مصالح القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.