عشية غزوه لبولندا عام1939، قال هيتلر لجنرالاته الذي جاؤوا لزيارته في مَخْبئه في جبال "الألب :"اطردوا الرحمة من قلوبكم ...وتصرفوا بوحشية". ثم أضاف بأنه يتحتم عليهم القضاء أولا على النخبة في بولندا لأن "الأمة التي تُباد فيها النخبة هي الأمة التي يمكن دفع أبنائها إلى مَصافّ العبيد".

ومن بين الكوارث المتعددة التي جلبها "ربيع الخراب العربي" إلى تونس تلك التي تمثّلت في اخراج النخبة التونسية من المشهد السياسي، وتهميشها، وتجميدها لتصبح مُهدّدة بالاضمحلال. وهو ما لم يكن متوقّعا أبدا من العارفين بالتونسي المعاصر، وبالأدوار الخطيرة والهامة التي لعبتها النخبة التونسية في مختلف مراحل هذا التاريخ.

وأول نواة للنخبة التونسية المُتنورة ظهرت في نهاية منتصف القرن التاسع عشر. فقبل عودته من زيارته التاريخية إلى فرنسا عام 1846، والتي سمحت له بالاطلاع على البعض من معالم الحضارة الغربية، أسّسَ أحمد باي ما سمّي آنذاك ب"المدرسة الحربية" بباردو(1840) بهدف إعداد نخبة تونسية مُنفتحة على الغرب المتحضّر والمتمدّن. وكان المشرف العام على تلك المدرسة مستشرق إيطالي يُدعى كاليغارس. أما الأساتذة فكانوا ايطاليين وفرنسيين وبريطانيين. وكان برنامج التعليم يتضمّنُ تدريس العلوم الحديثة مثل الرياضيات وفنون الحرب إذ أن أحمد باي كان مفتونا بالجنرال بونابارت. كما تضمن أيضا تعليم اللغات الأجنبية خصوصا الفرنسية والإيطالية. وكان المصلح خير الدين باشا التونسي صاحب كتاب :"أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" من أبرز المتخرجين من تلك المدرسة التي أغلقت أبوابها عام1869 . ومن بين الأعمال الجليلة التي قامت بها النخبة التونسية المتخرجة من "المدرسة الحربية"، اعداد دستور للمملكة التونسية في عام 1857. ومن بين البنود الهامة لذلك الدستور التي تمّ اعداده غداة قيام تونسي بقتل يهودي شتم علنا الإسلام والمسلمين أمام حانة في قلب العاصمة، حماية الأقليات التي تعيش في المملكة، وضمان حقوقها المشروعة، وإصلاح الإدارة، والحدّ من الاستبداد في المجال السياسي والاجتماعي. وعندما عُيّن وزيرا أكبر للملكة وذلك عام1870، واصل خير الدين باشا التونسي تركيز جهوده لإنجاح مشروعه الإصلاحي في المجال الإداري والتعليمي مُنشأ أول مكتبة وطنية للمخطوطات، والمدرسة الصادقية التي سيتخرج منها رموز النخبة التونسية المُستنيرة. وهؤلاء سيخوضون نضالا طويلا ومريرا ضد الاستعمار الفرنسي، أمثال البشير صفر وعلي باش حانبة، والحبيب بورقيبة، والدكتور محمود الماطري، والطاهر صفر، و صالح بن يوسف، والبحري قيقة، ومحمود المسعدي، وغيرهم. وسيكون للنخبة التونسية المستنيرة بزعامة بورقيبة دور فعّال في بناء دولة الاستقلال التي جعلت من اجبارية التعليم للجنسين، ومن تحرر المرأة، ركنين أساسيين في برنامجها الإصلاحي من أجل بناء مجتمع جديد مُنفتح على حضارة العصر، وعلى منجزاتها الكبيرة في جميع المجالات.

لكن حال سقوط نظام بن علي في الرابع عشر من شهر يناير-كانون الثاني 2014، شرع المعارضون لهذا النظام، وفي مقدمتهم الإسلاميون واليساريون المتطرفون في شنّ حملات مسعورة على النخبة التونسية بهدف إخراجها نهائيا من المشهد السياس والثقافي. وقد بدأت تلك الحملات بمنع حزب التجمع الذي كان السند الرئيسي لنظام بن علي، والذي يعود تاريخ نشأته الأولى إلى العشرينات من القرن العشرين، من أيّ نشاط سياسي، ومحاكمة أمينه العام والبعض من كبار الوزراء الذين كانوا فاعلين في الحياة السياسية قبل انهيار النظام، وفي مقدمتهم الأستاذ عبد العزيز بن ضياء الذي توفي في سجنه قهرا وكمدا. كما شملت تلك الحملات تجريد وزارة الداخلية من كبار ضباطها الذين كانوا ساهرين على أمن البلاد، وعلى استقرارها. وفي النهاية ، أجبر محمد الغنوشي الوزير الأول في نظام بن علي على الاستقالة لتكون تلك الاستقالة بمثابة الضربة القاضية للنخبة التونسية المستنيرة. وسرعان ما كشف المعارضون لنظام بن علي عن مخططهم الحقيقي المتمثل في سحق النخبة التونسية المستنيرة، ومحو آثارها، والتحقير من منجزاتها، والحطّ من شأن زعمائها وقادتها، وردْم تأثيراتها فكما لو أنها لم تكن موجودة أبدا. لذلك مفجوعا، صرخ الدكتور عبد العزيز قاسم، وهو أحد رموز النخبة في مرحلة بناء الدولة الوطنية عقب حصول البلاد على استقلالها: " في ظرف أشهر قليلة، تبخّرَ قرن ونصف من التنوير التونسي". وقد استعمل الإسلاميون واليساريون المتطرفون مختلف الوسائل والتبريرات لإنجاح مخططهم الجهنمي لتدمير النخبة التونسية وتزوير تاريخها، ونسْف منجزاتها التاريخية في جميع المجالات. فاليساريون المتطرفون الذين انتشلهم التعليم العمومي الذي أقرّه بورقيبة حال حصول تونس على استقلالها، من الجهل والأمية اعتبروا أن رموز هذه النخبة الذين قادوا الحركة الوطنية ضد الاستعمار على مدى ثلاثة عقود، والذين أليهم يعود الفضل في بناء الدولة الوطنية، مجرد" عملاء للغرب الرأسمالي والامبريالي". ولم يختلف الإسلاميون عن اليساريين المتطرفين إذ أنهم وصفوا رموز النخبة التونسية المستنيرة ب" المُستغربين"، وب "المعادين للإسلام وللعروبة"، وب "الطغاة"، وب "المستبدين". . وأمام أحد الدعاة المصريين الذين جاؤوا بهم ل"نصرة الإسلام " في تونس، قال أحد كبار قادة النهضة:" نحن لا نريدهم(يقصد رموز النخبة التونسية المستنيرة وأنصارها) ، بل نريد أبناءهم ليكونوا معنا في معركتنا ضدهم". ولكي يربطوا القول بالفعل، شرع الإسلاميون في نصب الخيام الجهادية والتكفيرية في مختلف أنحاء البلاد لاستقطاب الشباب بالخصوص، واغرائهم بحوريّات الجنة إن هم انضمّوا إلى الحركات السلفية المتطرفة التي تستخدم الإرهاب كوسيلة لفرض وجودها دينيا وسياسيا. وفي ظرف أشهر قليلة أصبحت تونس قبلة دعاة الإرهاب والعنف بهدف أرسال شباب تونس إلى جبهات القتال في سوريا، وفي العراق ، وفي ليبيا. والبعض من هؤلاء الشبان انطلقوا سرا إلى أوروبا ليرتكبوا مجازر فظيعة في فرنسا وألمانيا. وقد نجح الدعاة المتطرفون في اقناع نسبة هامة من التونسيين بأن إصلاحات بورقيبة، خصوصا في مجال حقوق المرأة، متناقضة مع مبادئ "الإسلام الحنيف". لذلك أقدمت أعداد هامة من التونسيات على وضع الحجاب. بل أن الحجاب فُرض حتى على الفتيات الصغيرات في رياض الأطفال. وأما الزي الأفغاني فقد غزا الشارع التونسي ليصبح الزي الرسمي لكل الرجال المناصرين للحركات الإسلامية المتطرفة. ولم يتردد قادة حركة النهضة في التشنيع بالمناهج التعليمية خلال فترة حكم بورقيبة وبن علي باعتبارها برامج "مُفسدة للدين"، و"مُخلّة بالأخلاق الحميدة" ، ولا هدف منها سوى تخريج أجيال من "المتفسّخين والمنحرفين"، ومن "المتنكرين لدينهم وهويتهم وأصولهم". ولكي يقرنوا القول بالفعل مرة أخرى، أقام الإسلاميون مدارس قرآنية في مختلف أنحاء البلاد على شاكلة المدارس القرآنية في باكستان، ومكنوا العديد من أنصارهم من الحصول على شهادات مُزيفة تسمح لهم بالتدريس في المعاهد والمدارس العمومية. وامعانا منهم في ترذيل النخبة التونسية، سمح الإسلاميون واليساريون لأنفسهم بإظهار لامبالاتهم واستهتارهم العلني بالمناسبات الوطنية الكبيرة. فقد أبطلوا الاحتفال بالثورة المسلحة التي اندلعت عام1952، والتي أفضت إلى استقلال البلاد في عام1956. وفي يوم عيد الاستقلال وعيد الجمهورية، كانوا يتعمّدون التغيب عن الاحتفالات، أو هم يظهرون وهم يغطّون في نوم عميق.

وكان النخبة التونسية المستنيرة تنتظر من الباجي قائد السبسي أن يُعيد لها الاعتبار لذلك لعبت دورا مهما في حملته الانتخابية لكي يجلس على كرسيّ الرئاسة في قصر قرطاج إلاّ أنه خانها مُفضلا عليها حركة النهضة التي وعدته ب"بمستقبل سياسي" لابنه. وطوال الفترة التي أمضاها في قصر قرطاج، وحتى وفاته في الخامس والعشرين من شهر يوليو-تموز 2019، ظل يتحاشى الاقتراب من رموز النخبة، ومن كل وزير أو مسؤول كبير في نظام بورقيبة، أو في نظام بن علي. وحتى عندما يرحل عن الدنيا واحد من هؤلاء الذين كانوا زملاء له، خصوصا في فترة بورقيبة، فإنه لا يكلف نفسه حتى حضور جنازته، او ارسال تعزية إلى عائلته.

وقد ازداد ترذيل النخبة التونسية، وتهميشها استفحالا مع قيس سعيد الذي أبدى منذ جلوسه على كرسي الرئاسة، نفورا واضحا من رموزها، مفضلا عليها من ساندوه في حملته الانتخابية، وجلهم طلبة سابقون، أو منقطعون عن الدراسة. ورغم جهلهم بشؤون الدولة، وانعدام خبرتهم في المجال السياسي والاجتماعي، فإنه عينهم في أرقى المناصب لتزداد الأوضاع سوءا بسببهم. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أظهر قيس سعيد أن المرجعيات الأساسية في التاريخ التونسي القديم والحديث لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد. وخلال قمة الفرنكفونية التي انعقدت في جزيرة جربة في التاسع عشر من شهر نوفمبر-تشرين الثاني من هذا العام، تعمد قيس سعيد عدم ذكر بورقيبة في الخطاب الافتتاحي للندوة ، هاذيا بكلام عجيب وغريب، في حين أشاد الحاضرون من رؤساء ووزراء من الدول الناطقة بلغة موليير بالدور الكبير الذي لعبه بورقيبة إلى جانب كل من الرئيس السينغالي ليبولد سيدار سنغور، والملك الكمبودي نوردوم سيهانوك في تأسيس الفرنكفونية. كما أن قيس سعيد أبطل الاحتفال بيوم الثقافة الوطنية، مُتحاشيا استقبال المثقفين والمبدعين والمفكرين والأكاديميين، وفاتحا الأبواب واسعة أمام كل من يمجّد شعبويته القائمة على شعار" الشعب يريد"، الفضفاض والخالي من أي برنامج عملي لإنقاذ البلاد من الأزمات الخانقة والخطيرة التي تتخبط فيها البلاد على مدى العشر سنوات الماضية.

مع ذلك يظل الأمل في عودة النخبة التونسية المستنيرة إلى المشهد السياسي والثقافي والفكري قائما لأن رموزها قد يصمتون لفترة معينة، لكنهم لن يقبلوا بأن يُقبروا وهم أحياء، ولن يستسلموا للهزيمة لأنهم مسكنون بما سماه شاعر تونس الكبير أبو القاسم الشابي ب"إرادة الحياة"، ثم أنهم يعتبرون أن التخلي عن دورهم التنويري خيانة لأجدادهم من المصلحين ومن الزعماء الأفذاذ الذين دفعوا الثمن غاليا من أجل أت تظل تونس بلدا متوسطيا يتمتع بتاريخ يمتد إلى ثلاثة آلاف عام تركت ثقافات وحضارات مختلفة بصماتها وواضحة عليه، وبالتالي يصعب على المتزمتين والحاقدين والمشعوذين والدجالين الهيمنة عليه لأمد بعيد.