تحت قبة البرلمان كشف رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك بحر الأسبوع الماضي عن الخطوط العريضة لسياسته اتجاه ملف المهاجرين الغير شرعيين والتي تضمنت انشاء جهاز هيئة حكومية شُرطية تعنى بالسيطرة على نشاط القوارب المطاطية العابرة بحر المانش القنال الإنجليزي (المانش) كما تحدث عن خطة لترحيل اللاجئين الألبان وتسريع تصفية ملفات اللجوء العالقة إضافة الى تخفيض فاتورة الايواء وذلك من خلال نقل المهاجرين الذين تتواجد ملفاتهم قيد الدراسة من الفنادق "المكلفة" حدائق العطلات والقاعات الطلابية السابقة. وتأتي هذه الخطوات ضمن جملة من السياسات التي تهدف الى خفض عدد المهاجرين في المملكة والذي تصفه وسائل الاعلام هناك بالمهول حيث أحصت بريطانيا في السداسي الأول من السنة الجارية ما يفوق عن نصف مليون مهاجر كانت للحرب في أوكرانيا نصيب في هذا الارتفاع.

لم يسلم ملف الطلبة المهاجرين الى بريطانيا من سياسات حكومة ريتشي سوناك حيث تتجه الى فرض مفاضلة طلابية على المتقدمين للدراسة في المملكة المتحدة وهو ما يشير الى نية واضحة لغلق البلاد والنأي بها من الأعباء الاقتصادية والمخاوف الأمنية التي تتعرض لها أوروبا جراء "الغزو البشري" الذي تتعرض له من قارة افريقيا وأوروبا الشرقية وآسيا، ولكن وفي نفس الوقت هناك حقيقة لا يمكن انكارها وهي أن أوروبا وبريطانيا قد حققتا فائدة كبيرة من تواجد ومئات الآلاف من المهاجرين الغير شرعيين الذين وفروا اليد العاملة المؤهلة في عدة ميادين، كما ساهم تنظيم الوضعية القانونية للعديد منهم على مر العقدين الأخيرين الى محاربة نسبة الشيخوخة التي كانت أوروبا تعاني منها.

هواجس بريطانيا وحربها مع المهاجرين الغير شرعيين ليست بجديدة خلافا لعملية النفخ الإعلامي الذي يصور كلا من سوناك ووزيرة داخليته سويلا برافرمان ذوي الأصول الهندية في هيئة "المنقذين"، والمتابع لمسار حكومات المحافظين البريطانية المتتالية من عهد مارجريت تاتشر التي لقبت بالمرأة الحديدة والصارمة اتجاه ملف الهجرة الى عهد جونسون الذي أخرجها من الاتحاد الأوروبي يجد أن لها خطابا مكررا في هذا الملف وخطوات صارمة في كل بداية تنتهي بالاعتراف يأن المعالجة خاطئة أو أنها كانت تحتاج الى مزيد من الصرامة والفاعلية والحقيقة أن ملف الهجرة هو أفضل ملف تستعمله الحكومات البريطانية لتوجيه الرأي العام بل هو الملف الكلاسيكي الذي يعتمده المحافظون وان كانت خطاباتهم السياسية تدعو للقضاء عليه ولكن في الواقع يتم توريثه الى محافظين جدد.

يظهر تناقض كبير بينما تبديه خطة سوناك وحكومته حيال الحدد من أعداد المهاجرين وبين الموقف السلبي اتجاه الحرب في أوكرانيا الذي ورط بريطانيا بأعداد كبيرة من اللاجئين: بريطانيا تستعد الآن لإمداد الجيش الأوكراني بصواريخ كروز وهي خطوة من شأنها أن تصب الزيت على النار في ملف الحرب والذي ترتب عنه وصول أزيد من 17 ألف لاجئ اوكراني الى بريطانيا منذ بداية الأزمة مع تحمل فاتورة مكلفة ومن دون دعم دولي لهؤلاء الأوكرانيين الموجودين داخل المملكة، كما تنفق سلطات المجالس المحلية مبلغ 10 ألاف و500 جنيه استرليني عن كل لاجئ كما تدعم مشروع "بيت لكل أوكراني" مع دعم لمسار لم شمل العائلات الأوكرانية، في المقابل تستعد بريطانيا الى ابعاد عشرات ألاف من اللاجئين السوريين العراقيين والافغان الى بلدانهم الأصلية أو رواندا التي فتحت أبوابها لاستقبال لاجئي بريطانيا المرفوضين، وهنا يتأكد أن حكومة سوناك قد تخلت عن المعايير الأخلاقية في سياتها حيال ملف الهجرة بل أصبحت حكومة ميكيافيلية بامتياز.

ان محاربة الهجرة تبدأ بتوفير الحق في العيش الكريم في الدول الفقيرة والمضطهدة التي يأتي منها المهاجرون أساسا وبما أن القوى العظمى وفي مقدمتها بريطانيا والاتحاد الأوروبي لا تفعل شيئا حيال بلدان افريقيا الفقيرة بل لا تتوانى عن نهبها من خلال دعم وصول الفاسدين الى السلطة ولا تسعى الى حل سلمي في بؤر الصراعات التي تأتي منها حشود المهاجرين، فان الظاهرة لن تختفي ولن توقفها إجراءات المراقبة ولا الاتفاقيات المشتركة لضبط الحدود، وسيستمر العالم المتخلف والدول الديكتاتورية في تصدير عشرات الألاف من المهاجرين سنويا وستسمر أوروبا وبريطانيا وحتى أمريكا برفض الوافدين الجدد تارة والسكوت عنهم تارة أخرى عندما تحتاج أسواق العمل فيها لأيادي مهرة بأثمان بخسة.