هذا الصباح قرأت نصا للروائي النمساوي هارمان بروخ بعنوان:" جيمس جويس والحاضرّ. وفيه يُعرّف الفلسفة والشعر على النحو التالي :"بنفسها وضعت الفلسفة نهاية لعهد الكونية الذي كان عهدها في فترة التُجمّعات الكبيرة."

وقد كان عليها أن تُزيحَ الأسئلة الحارقة الأكثر من غيرها في فضاء منطقها، أو كما يقول فيتكانشتاين، إبعادها إلى مجال ما هو رمزي واستعاري.

انطلاقا من هنا تبدأ مُهمّة الشعر، وهي مُهمّة معرفة تُمسك بما هو شامل وجامع، والذي يَنتصبُ فوق كل توظيف اجتماعي أو تجريبي، وبالنسبة لها هي لا تُبالي إن كان الانسان يعيش في عصر اقطاعي، أو بورجوازي، أو بروليتاري. هنا فقط يكّمٌُنُ واجب الشعر الذي يتمثلُ في التصريب نحو ما هو مُطلق في المعرفة".

وأعتقد أنه نادرا ما نجد في الشعر العربي المعاصر ما يتطابق مع هذا التعريف بمهمّة الشعر إذ أن الشعراء العرب غفلوا عن المهمة الكونية للشعر منذ أن طغت الايدولوجيات سياسيا وثقافيا ليصبحوا خدما طيعين لها، وتحت ضغطها وتأثيرها يكتبون قصائدهم للحصول على الشهرة الزائفة. لذلك نرى الكثير من الشعراء من المشرق والمغرب، يتنافسون على كتابة قصائد عن القضية الفلسطينية، وعن أحداث سياسية واجتماعية سرعان من تذوب في أحداث أخرى.

أو هم ينشغلون بما عابر ويومي لتفقد قصائدهم شرعية انتسابها للشعر في جوهره العميق.
وهذا ما حدث في تونس بعد انهيار نظام بن علي. فقد تهافت جلّ الشعراء على كتابة قصائد في تمجيد سيء الذكر محمد البوعزيزي، وفي الإشادة بانتفاضة يوم الرابع عشر من جانفي2011 التي كانت مُدبّرة بليل، والتي أسقطت نظام بن علي، لتنفتح الأبواب واسعة أمام العملاء والخونة والثورجيين الذي ما لبثوا أن حوّلوا بلادنا إلى غنيمة ينهبون خيراتها وثرواتها، ويعبثون بشعبها باسم الديمقراطية وحقوق الانسان، ويزوّرون تاريخها ويُغيّبون زعماءها الكبار الذي صنعوا مجدها في الماضي والحاضر... لذلك أنا لا أتردد في تحميل الشعراء والمثقفين عموما مسؤولية ما حدث ويحدث في بلادنا لأنهم انخرطوا في الألاعيب الإيديولوجية ونسوا مُهمتهم الحقيقية المتمثلة في تنوير العقول، وفي فتح العيون على حقائق الواقع المُغيبة خلف الشعارات والوعود الكاذبة، وفي استشراف المستقبل، وفي التمرد بالخصوص على تلك اللحظة التاريخية التي سميت بـ"الربيع العربي"، وعلى كل ما جاءت به من أكاذيب ومن أوهام.

ففي لحظة تاريخية كهذه ليس على الشاعر أن ينزل إلى مستوى الجماهير المَضللة، وليس عليه أن يخضع لسلطة "المبشرين" بجنة على الأرض" سواء كانوا يساريين أو إسلاميين أو غبرهم.

وكما يقول الياس كانيتي: على الشاعر في أيّ لحظة تاريخية أن "يضرب على الأرض بقدميه، وأن يصرخ عاليا مثل الطفل الصغير الذي لا يُرضيه حتى الحليب الذي يُهدهده، ويُعجّل له بنومة هادئة ومُريحة". ثم أن الشاعر ليس ذلك البطل الذي بإمكانه أن "يسيطر على الزمن، وأن يُخضعه لرغباته وأهدافه" كما يقول الياس كانيتي، بل عليه أن يكون خادمه الذي لا تغيب عنه رائحته، ولا وقائعه، ولا بطولاته، ولا هزائمه، ولا خيباته المرة. هكذا كان الشعراء الكبار في جميع اللغات والثقافات، وفي جميع الأزمنة القديمة والحديثة على حد السواء.