شهدت الأزمة الأوكرانية في الآونة الأخيرة تطورات مهمة للغاية، فبعد أن شعر الكثير من المراقبين بالتفاؤلر النسبي إثر إشارات الرغبة في التفاوض التي صدرت على الجانب الروسي، والتي قابلتها أوكرانيا بوضع شروط للتفاوض، تراجعت فرص الإنفراج المأمول بشكل كبير بعد قرارين مهمين الأول إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إلتحاق الفرقاطة الأحدث "أدميرال غورشكوف" المزودة بصواريخ "تسركون" الفرط صوتي الجديد بالخدمة في الجيش الروسي، لتنضم إلى الأسطول الشمالي، حيث أكد بوتين أن بدء تشغيل الصواريخ على الفرقاطة يسمح لروسيا بتعزيز أمنها في مواجهة أي تهديدات. على الجانب الآخر وافقت ألمانيا والولايات المتحدة على الإنضمام إلى فرنسا في تزويد أوكرانيا بمركبات قتالية مدرعة، في خطوة مهمة تستهدف تعزيز القدرات القتالية الأوكرانية في الحرب ضد روسيا، وهو قرار جاء بعد أشهر من مطالبات كييف، وهو قرار يعكس عزم الغرب ـ ولاسيما ما يتعلق بتحول موقف ألمانيا ـ على مواصلة دعم أوكرانيا، التي وصفت هذه الخطوة بأنها "إنتصار كبير".
القرار الغربي بتزويد أوكرانيا بمركبات قتالية يمثل إستجابة لجزء من مطالب كييف، التي كررت مراراً مطالبها بتزويدها بنحو 700 مركبة قتالية لدعم قوات المشاة، بالإضافة على 300 دبابة غربية لتعزيز قدرات جيشها على إختراق المواقع الروسية على طول جبهة القتال، وقد تحقق المطلب الأول بالفعل بهذه الإستجابة، فيما أحجم حلفائها الغربيين عن تزويدها بالدبابات على الأقل في المرحلة الراهنة.
وتكمن أهمية القرار الغربي في هذا التوقيت أنه يأتي على خلاف مواقف سابقة كانت الولايات المتحدة وألمانيا قد حذرتا فيها من تزويد أوكرانيا بعربات مدرعة خشبة تفسير الأمر من جانب روسيا باعتباره تصعيداً ضدها، ومن ثم فإن تبني هذه الخطوة يمثل تجاهلاً محسوباً لردة الفعل الروسية المحتملة، وهي في الأغلب جاءت رداً على تلويح موسكو بالصواريخ فرط الصوتية، التي يشعر الغرب بانزعاج كبير حيالها. ولم تتوقف الولايات المتحدة من جانبها عند حد تزويد أوكرانيا بالعربات المدرعة بل اتفقت مع ألمانيا على إرسال منظومة "باتريوت" أميركية الصنع إلى اوكرانيا، لتعزيز دفاعاتها الجوية.
الشواهد تقول أن هناك تصعيد متدرج في الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا بعد أن تبددت فرص التوصل إلى منطلق للحوار بشأن تسوية الأزمة، والأرجح أن الطرفين يميلان في الوقت الرهن إلى تعزيز مواقفهما العسكرية على أرض الواقع، سعياً للضغط على الطرف الآخر من أجل تخفيف شروطه ومطالبه التفاوضية التي أعلنت مؤخراً، لاسيما بعد أن بدا للجميع أن الشروط الروسية، وكذلك الأوكرانية، لبدء التفاوض، صعبة التحقق، وهذا يعني أن هناك إحتمالية ليست قليلة لتزويد أوكرانيا لاحقاً بدبابات غربية تسهم في مهاجمة القوات الروسية، ونقل الجيش الأوكراني من حالة الدفاع إلى الهجوم، لاسيما أن المركبات المدرعة الخفيفة تتعلق في كثير من الأحوال بمنح القوات الأوكرانية قدرات دفاعية أفضل، من خلال صد هجمات الدبابات الروسية، وامتلاك هامش مناورة للتنقل والدفاع عن المدن ونصب الفخاخ كما يمكنها دعم العمليات الهجومية وغير ذلك.
تحليل الأحداث يشير أيضاً إلى أن حرب أوكرانيا مرشحة للإستمرار وربما التصاعد خلال الأشهر المقبلة، حيث يعتقد أن الجيش الأوكراني سيحاول إجبار القوات الروسية على الإنسحاب من المناطق التي احتلتها لاسيما لو حصل لاحقاً على دبابات غربية حديثة، كما ستواصل روسيا قصف البنى التحتية الأوكرانية من أجل تصعيد الضغوط على القيادة الأوكرانية للإستسلام، والأرجح أن يتواصل الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا خلال الفترة المقبلة خصوصاً بعد أن تخلت ألمانيا عن ترددها فيما يتعلق بتزويد كييف بالأسلحة بشكل مباشر (سبق لألمانيا أن كانت طرفاً في عملية مقايضة ثلاثية حصلت بموجبها أوكرانيا على أسلحة).
احد أسباب التصعيد الجديد أن رهانات روسيا على تراجع الدعم العسكري لأوكرانيا لم تتحقق، حيث يواصل البيت الأبيض دعم كييف عسكرياً، ولكن يبقى الخيط الرفيع بين الأهداف والغايات في هذه الحرب المعقدة، حيث لا يزال الغرب يخشى إستفزاز روسيا لدرجة تدفعها لتصعيد الصراع العسكري ومهاجمة أهداف أطلسية أو حتى اللجوء إلى استخدام أسلحة دمار شامل، فالكل يعرف تماماً ان بوتين لن يقبل هزيمة جيشه في أوكرانيا، وبالتالي فالمستهدف من الطرفين الروسي والغربي ـ على الأرجح ـ هو الوصول إلى مرحلة المأزق أو النقطة الحرجة الفاصلة بين التصعيد المحسوب أو المحدود وبين الحرب الشاملة، وهذه أيضاً تتوقف على تصورات الطرفين كل على حدة لما قد يراه مناسباً كنقطة تفاوض مناسبة بأقل الخسائر الإستراتيجية.
بلاشك أن بلوغ هذه النقطة قد يثير خلافاً بين كييف وحلفائها الغربيين، وهو خلاف متوقع بدرجة كبيرة في مرحلة ما بالنظر إلى طبيعة المطالب التي تتبناها أوكرانيا كشروط للتفاوض، والمسألة هنا لا تتعلق بالحكم على هذه المطالب التي تراها كييف أساسية لبدء التفاوض وترفضها موسكو تماماً، ولكن النقاش هنا يتمحور حول طبيعة الصيغة المحتملة التي يمكن ترضى الأطراف جميعها لإنهاء هذه الحرب، وهي غالبا صيغة يصعب الإتفاق عليها في الظروف الراهنة، ويمكن اعتبارها نقاشاً مؤجلاً عن عمد لأنه يمكن أن تثير خلافات عميقة ليس فقط على الجانب الأوكراني ـ الروسي ، ولكن أيضاً على الجانب الأطلسي ـ الأطلسي، سواء بين واشنطن وحلفائها أو بين الغرب وأوكرانيا، لاسيما فيما يتعلق ببناء موقف موحد إزاء الأراضي التي إستولت عليها روسيا وأعلنت ضمها لسيادتها، وهل سيتم التسليم بهذا الأمر الواقع أم الإصرار على إستعادتها أو الاكتفاء بضمان سلامة ماتبقى من أراضي أوكرانيا في حال التوصل إلى وقف للقتال؟.
التعليقات