كنت ولا زلت من المقتنعين تماما بأن ما ينشر في وسائل الإعلام حديثة كانت أم تقليدية لا يعبر عن رأي صاحبه فحسب بل يحظى بتأييد وموافقة ناشره أيضا ولا تتعدى مقولة (المقال يعبر عن رأي صاحبه) عن كونها تمصلا ماكرا عن المسؤولية أو تهربا من التورط في إشكالات وانتقادات أو خوفا من العواقب. وما فعلته جريدة الصباح الحكومية الممولة من أموال الشعب والمعبرة عن الخط العام الذي تسير عليه الحكومة قبل أيام بنشر تقرير عن استطلاع حول إقليم كوردستان ووجود رغبة في حله والعودة إلى السلطة المركزية لا يخرج عن هذه الدائرة، فمجرد نشر التقرير وفي موقع بأعلى الصفحة الثالثة هو بمثابة موافقة صريحة على مضمونه المخالف للسياسة الرسمية ودستور البلاد، فضلا عن الانحراف عن مهمة الصحافة المدافعة عن اللحمة الوطنية والنابذة للفتنة والتفرقة والتنافر.

التقرير الذي أثار استياء وغضب كوردي شديد على صعد عدة وكذلك عملية النشر لا تمثل سبقا صحفيا وسط الكم الهائل من استطلاعات الرأي التي تجرى في البلاد عن قضايا حساسة وملحة تطغى على الشارع العراقي والكوردستاني دون اهتمام إعلامي، كما أنها ليست من التقارير الاستقصائية المعمقة التي يرغب كل صحفي في نشره قبل الآخرين، وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على:

  • وجود سياسة خفية مغرضة ومحرضة ومعادية للكورد وإقليمهم بجانب السياسية الظاهرة والرسمية المتبعة من الدولة والأطراف والقوى السياسية المختلفة لا سيما في الإعلام الرسمي المفروض أن يمثل جميع القوميات والمكونات والأطياف العراقية.
  • هناك قضايا أهم بكثر من محتوى الاستطلاع الذي أجراه مركز غير معروف على الإطلاق تهم المواطن الكوردي في الإقليم كالرواتب وعدم حصوله على النسبة كافية من الوقود والخدمات وغلاء الأسعار بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار أو خلق مشاكل في نقل المحاصيل الزراعية من وإلى الإقليم، لم لم تتحمل الصباح عناء تناولها وإيصال المطالب المتكررة لمعالجتها إلى أصحاب القرار والشارع العراقي؟
  • توقيت النشر المتزامن مع عودة الدفء إلى العلاقات المتشنجة بين الإقليم والمركز منذ أعوام وتبادل الزيارات والحورات بينهما وقرب الانفراج في معضلات المادة 140 وقانون النفط والغاز والموازنة ومستحقات البيشمركة، يثير تساؤلات جدية عمن يديرون الإعلام الحكومي العراقي ومن يتحكمون فيه وعن كيفية استغلال هذه الوسيلة لأغراض مبيتة.
  • تبرؤ الحكومة من المنشور ومحتواه وعده مخالفا للموقف الرسمي وغير ممثل لوجهة نظر حكومية أو رسمية إطلاقا، خطوة صحيحة ينقصها اتخاذ إجراءات حازمة حتى لا تصبح وسائل الإعلام الرسمية أداة لخلق نعرات قومية أو فتن لا تحمد عواقبها.
  • على الرغم من رفض شبكة الإعلام العراقي التي تصدر الجريدة الموضوع المنشور جملة وتفصيلا وفتحها تحقيقا عاجلا في الأمر ثم تأكيدها على الخطاب الرسمي للدولة والملتزم بالدستور، يأتي رئيس التحرير وبدل تقديم الاعتذار عن هذه الهفوة التي وقع فيها والخطأ الكبير الذي ارتكبه أو الاعتراف بخطورة ما نشره، يسوق حججا واهية ومببررات ضعيفة لما بدر محاولا إيجاد مخرج لورطته وينم ذلك عن إصرار وتعنت يوحي بوجود إنَّ في الأمر.

إن التسليم بوقوع الصباح في خطأ وتقديم اعتذار رسمي ربما سيكون كفيلا بوأد الفتنة في مهدها وإصلاح ما أفسده تعامل الجريدة غير المسؤول مع قضية تخص ثاني أكبر مكون في البلاد وحقه المكفول بالدستور، فبقاء الجدل الحاصل ينمي روح العداوة ورفض الآخر ويعود بنا إلى سنوات مضت حين كان النفور ولي الأذرع سيد الموقف مما أحيى نفَس المعاداة والإنكار.
هذا الحدث أكد أيضا الضرورة الملحة لإعادة نظر جذرية في نهج الإعلام العراقي بشكل عام والرسمي الحكومي على وجه الخصوص إدارة ونهجا وسياسة صحفية وأهدافا وأسلوبا، إذ لا بد له أن يكون مرآة عاكسة للسياسة الحكومية المتبعة ولا يلعب بنار تأتي على الأخضر واليابس.