لعنة الكرسيّ
لعنة جديدة تضاف إلى ما عُرف من لعنات عبر التاريخ، من لعنات السحرة إلى لعنة الفراعنة، إلى لعنة القبور المغلقة والكنوز المستورة، إلى لعنات الجن والعفاريت، ألا وهي «لعنة الكرسيّ»...
لهذه اللعنة شروطها الخاصة، فهي لا تأتي من دون تأطير مكانيّ لها، إلاَّ أنَّها تتفلّتُ من إطار الزمان، لا سيَّما الحديث والآتي. إطار المكان من دون تبديل هو «لبنان»، أمَّا باقي أُطرها فشيِّقة بقدر شقاء ما تسببه هذه اللعنة لكلِّ مَن يُنشدها، أو يرضخ تحت ظلِّها.
وقد روى لي أحدهم يومًا قصَّةً عن رئيس حيٍّ، ذاك الجبَّار المارد الذي لا يجرؤ أحد على أنْ يقْرب كرسيه! قال لي بأنَّه في ذلك الزمن الغابر كان هذا المخيفُ يُعرف بـ«فتوة الحي»، وعلى الرغم من المواقف البطولية التي كان يمتطيها هذا الفتوة في الدفاع عن أبناء حيِّه، إلاَّ أنَّه كان من ناحية أخرى مصدر خطر على مصير البعض منهم وحياته، كما كان حال إحدى الصبايا اليافعات التي رفضت الزواج به، فكان أنْ سيقت إليه راضخةً بعد تأديب من الأبوين والأعمام وربّما الأخوال... لا لخير سيأتيه هذا التأديب لها، بل لخير سيأتيهم، وشرٍّ سيجلو عنهم بعد أنْ أصبحوا أنسباء، ورهبة سيرونها في عيون أبناء الحي والأحياء الأخرى خوفًا من غضب الفتوة لأي ضرر قد يأتيهم.
يومَ سمعت هذه الرواية سألت: «ألا يوجد إلاَّ فتوة واحد في سيرة حياة هذا الحي؟ أليس هناك فتوة آخر يحمل عنه هذا الحمل؟» يومَها كذلك ضحك الراوي لسماع سؤالي، وعلَّق وقد خرجت الكلمات متقطِّعة بأنغام قهقهته التي جعلت الدم يتدفق إلى خدَّي، والضيق والاستغراب إلى عينيّ المنكسرتين مع لحن ضحكته المتصاعد وكلماته المتراقصة معه...
«الفتوة وظيفة لا نهاية خدمة لها إلاَّ الموت، حتى الموت أحيانًا يفشل في تحقيق هذه النهاية، لأنَّ الفتوة الوريث يعلق على سيرة من فات وإنجازاته...[ضحكة أعلى] وكذلك ظلمه أو عبثه... [حشرجة وضحكة كادت أنْ تثقب أذنيّ] كرسي الفتوة وبعكوره لا يسمح لأيٍّ كان بالجلوس... للفتوة أصولها وأسرارها...»
وهنا أذكر أنِّى علَّقت بصوتٍ لا يخلو من الانكسار والأمل: «ليضعوا هذه الآداب في كتاب، يحفظها أحدهم ويصبح فتوة...» ... بعدها بقليل لم أعد قادرة على البقاء والاستماع إلى نهاية القصة... دموع الراوي التي أثارتها قهقهاته المتلاحقة المتسارعة المتزاحمة جعلتني أشعر بالضيق، والألم، فأنا لم أفهم ما الداعي لكل هذا الضحك... وتناوبت الأزمان، وبعد سنوات كثيرة فهمت...
فهمت أنَّه في لبنان، للكراسي قوانينها وأعرافها التي تضمنتِ الكتبُ بعضها وغفلت عن بعضها الآخر... والسرُّ في ما غفلت عنه. وما أدراك ما غفلت عنه الكتب؟؟؟
ما غفلت عنه الكتب أكثر أهمية مما سطَرَته، إذ يمكن لمن أراد أنْ يكون فتوةً استحضارُ ما غُفل عنه فحسب، وحفظه عن ظهر قلب، وإبداء الولاء لمن سبقه في الولاء إلى هذا المسكوت عنه، المهموس به في الأروقة المظلمة، والأقبية المطمورة بالذهب لا بالتراب، والأنفاق المغروسة نفاقًا في الأعماق، والقبور التي تشهد على ما كُمِّمَ من الأنفاس وأُخرسَ من الضمير...
هذا الذي غُفل عنه مسكوت عنه، مقبول كأوراق اعتماد عند الخاصة والعامة، الخاصة لما فيه من استمرارية بقاء، والعامة لما فيه من تتابع لألفة الهوان، والذل، والخنوع، وتأليه البشر، والموت فداءً لخفِّ سلطان... والمُضحك المُدمي في واقع الحال، أنَّه كُلَّما تأنَّق الفتوة في البذلة التي يرتدي، وتناغم فيه الشكل مع المضمون بحرفيةٍ عالية، وتناول بحديثه كلَّ منطق، وضبط إيقاع صوته في الخطاب ليسكب فيه الهدوء وَدِعَةَ الحَمَل عند الولادة، ورفع شعار موروثه كـ«ماركة مسجَّلة» ليذكّر أنّه أصل نذر نفسه لخدمة الغير، وتحدَّث بالعيب والمقامات والصح والخطأ، كلَّما تعاظم ظلمه وتأنَّق، وجوره، ورياءه، وسرقاته...
وإذا عدل الزعيم، فـ«الحاجب المنصور» يتربَّص... إلاَّ من اصطفى الزمانُ بشريًا جالسًا على الكرسيِّ وقد أخضعها لسلطتِه ولم يخضع لها، وصدق المحيطون به له في الولاء والمحبة والحقيقة!
من كرسيّ الحي، إلى كرسي المخترة، والبلدية، والسياسة، حتى كرسي الزعامة في العائلة، وكرسي النواطير في الأبنية والحراس ورؤساء اللجان... كراسٍ تُخضعُ قانون الجاذبية لأنَّها تتحدَّى جاذبية الضمير، والحق، والعدالة، والحقيقة، والإنصاف، والأهم، قانون جاذبية الأخلاق والإنسانية!
هذا في لبنان فحسب... حيث المكان يتنصّل من الزمان معارضًا قوانين الفيزياء...
بالفعل لبنان بلد لا من الأرض بالتأكيد وقد خرج عن قانونها، والمستحيل أنْ يكون كذلك قطعة من السماء إذا كانت السماء عدالة كما تذكر الأديان! لينان بلد اللعنة، «لعنة الكرسيِّ»!
التعليقات