تُشكل التحديات المنبثقة من العوالم الافتراضية وتطبيقاتها المتعددة وادواتها المتنوعة، احدى المشكلات التي تواجه الانسان، ببعده الرقمي، في العصر الحالي، واهم المعضلات التي تُنفق من اجلها الشركات والمؤسسات المعنية ملايين الدولارات لإيجاد حلول حقيقية تؤدي الى تقليل حجم المخاطر الكبيرة ودرء التهديدات الاستثنائية المترتبة عليها من جهة، وتقود لخلق بيئة ومجتمع سليم خالي من كل ما يؤثر على أمنه وسلامته من جهة ثانية.

وقد كانت، ولا زالت، الشركات المسؤولة عن انتاج الأدوات التقنية وتطبيقاتها تسير منذ تأسيسها بمنهج، اتضح لاحقا انه يحمل بين ثناياه إشكالات كثيرة، حيث انها تقوم بتصنيع المنتج وابتكار البرامج وتقديم التقنيات المختلفة، ثم تبدأ، بعد ذلك، بالبحث عن علاج للثغرات التي تضرب بنية عملها الداخلية، عبر آليات يمكن لها مجابهة المشكلات التي تعترض طريقها.

ويبدو ان هذا المسار الذي انطلق على سكته قطار هذا النهج قد أصبح محفوفا بالمخاطر ومحاط بعدة عقبات اثبتت انه غير ناجح ولا يمكن الاستمرار به، خصوصا مع تنامي حجم ونوع المشكلات التي يغرق بها المستخدم وهو يشعر ان حياته قد ترقمنت بشكل كبير في كل مفاصلها وعلى نحو لم يشهد مثيله في التاريخ منذ ظهور التكنالوجيا وتطورها.

واستناد لذلك، وبدلا من انتظار الثغرات لكي تضرب الأنظمة والبرامج، من اجل ان نجد لها حلا ونبحث لها عن مخرج، قدم باحثون متخصصون في شركة كاسبرسكي رؤية مغايرة للمألوف السيبراني، وكشفوا عن تفكير مختلف في هذا الإطار، وهي ما أطلقت عليه الشركة المناعة الرقمية (Cyber Immunity) الذي يشير مصطلحها الى نهج حديث يقوم على أساس تثبيت دعائم الامن والحماية في قلب تصميم المنتج او البرنامج، وذلك في مقابل الرؤية السابقة التي كانت تقوم على أساس طرح المنتج ثم البحث بعد ذلك عن حلول لمشكلاته.

وفكرة المناعة الرقمية تأتى، كما يشي مدلولها اللغوي والطبي، من مفهوم المناعة التي تعني قدرة الجسم وقابليته على حماية نفسه من الوقوع تحت تأثير كل ما يُسبب له الامراض من بكتريا وفايروسات وغيرها، وعمل، المناعة الرقمية، في هذا الصدد، هو محاكاة جلية لأسلوب عمل نظام المناعة في الانسان، حيث بدأت الشركة اتباع هذا النهج في تشغيلها لنسخة نظام KasperskyOS الذي تم اطلاقه في عام 2017، وأصبح اليوم اهم ركائز أنظمتها القائمة على مفهوم المناعة الرقمية والامن في بنية وجوهر تصميم برامجها.

وبعد تجريد طريقة المناعة الرقمية من طابعها التقني، والسياق الذي وردت فيه، يستطيع، المستخدم بلا شك، الاستفادة من دلالاتها وما تعنيه من خلال تسليح نفسه بمعرفة رقمية رصينة تمكّنه من استخدام الأدوات التقنية ومواقع التواصل وتطبيقات التراسل بصورة واعية وذكية منعا من اصطياده في شباك الاحتيال الرقمي الذي تنتج عنه مشكلات تتجاوز المستخدم، لتصل آثارها وتداعياتها للأب والعائلة والمدرسة والمجتمع، وقد تصل لأمن الدول وسياساتها واقتصادياتها.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بان قضية المناعة الرقمية والمضامين التي تترتب على العمل بها، من الواجبات التي ينبغي على الدولة ان تضعها في اعتبارها وضمن مناهج عمل الجهات المعنية المتخصصة في هذا المجال وينبغي ان يؤخذ الموضوع بجدية لأهميته التي تثبت الاحداث في كل يوم حقيقة هذه المعضلة وما تمثلها من تحديات في جميع المستويات.

وسواء كان الامر يتطلب إعطاء دورات تثقيفية حول العالم الافتراضي او إطلاق حملات بالتنسيق مع منظمات مختصة بهذا الموضوع، او حتى فرضه في المناهج الدراسية، فان الدولة بلا شك مسؤولة بصورة مباشرة عن هذا الموضوع لان حماية المواطن جزء من واجباتها التي ينبغي عليها القيام بها، ومفهوم هذه الحماية، وفي ظل تداعيات العصر الرقمي، يتوسع ويتمدد ويأخذ ابعاد أخرى تتناسب مع التغيرات التي عصفت بفضاء الانسان وعوالمه الافتراضية، والتي ستكون حمايته الرقمية جزء لا يتجزأ منها.

ان المناعة الرقمية قد اعادت تموضع مفهوم الحماية في خريطة الأمن السيبراني، وهي قد أمست حاجة ضرورية وماسة لا ترتبط بالمستخدم في مواقع التواصل فحسب، وانما بما يمكن تسميته بسيادة الدول الرقمية التي أشرنا وشرحناها بالتفصيل في مقال سابق.