لا شك في ان التكنولوجيا هي المحرك الأساس لوجودنا المعاصر، فيما شهد العقد الأخير تطورا مذهلا في انتشار الذكاء الاصطناعي طال كافة مناحي الحياة، ولعل أحدثها نظام GPT الذي أطلقته شركة OpenAI في نوفمبر الماضي، وهو عبارة عن نظام إلكتروني مبني على الذكاء الاصطناعي، يعمل على تزويد الباحثين بالاجابات بناءً على نصوص او معلومات مدخلة بعد تحليلها، إذ يُتيح للانسان التحاور معه في شتى الأمور بدءًا من الاستشارة الطبية او الاستعلام عن معلومة وصولا الى البوح له عن الحالة النفسية، وعلى سبيل المثال، يمكن تطرح عليه أسئلة حول شرح قوانين رياضية او مناقشة نظرية علمية، أو يمكنك أن تطلب منه ان يكتب لك قصة او نصًا ادبيًّا، كما يمكن ان يتفاعل مع محدثه في القضايا الوجدانية وان كان يُعرّف محدثه بأنه مجرد روبوت لا يمتلك مشاعر واحاسيس البشر.

وبالقدر الذي يُعدّ ذلك مكسبًا رائعًا للحضارة الانسانية، فإنّ ذلك يفتح الباب على مصراعيه امام اسئلة وجودية حقيقية حول ما اذا اصبح الذكاء الاصطناعي يُحدد لنا ماهية الفكر وحدوده. ويشير الفيلسوف كينيث تايلور إنه على الرغم من ان الدراسات والأبحاث حول الذكاء الاصطناعي أحرزت تقدما كبيرا في الجانب الهندسي غير انها لم تحرز تقدما مكافئا في المجال المعرفي . لذلك تنصب بعض الابحاث حاليًّا حول تطوير "التفكير" عند تلك الروبوتات، بحيث تصبح نفسها قادرة على اعطاء الجديد في المجال المعرفي، فيما أبدى كثير من المراقبين مخاوفهم وأعربوا عن قلقهم حيال سرعة انتشار التكنولوجيا ومآلاتها وتداعياتها على الانسان والثقافة والاخلاق، كما اعاد الى الواجهة تلك الاسئلة التي شهدنها سابقًا مطلع التسعينيات عندما احدث الانترنت ثورة في عالم الاتصال. وإننا في هذا السياق نسجل نقاط أهمها:

اولاً: تسري التكنولوجيا في كافة مناحي عيشنا بل هي جزء من وجودنا الفعلي ليس بوصفها كأداة وحسب بل تتجاوز ذلك الى كينونة الانسان نفسه وهويته، فهي كقدر اندلع عندما اتخذ الوجود صبغة رياضية، تولّد عنه مفهوم مغاير للزمان والمكان وعلاقات مغايرة للعلاقات الانسانية وعلاقة الانسان مع الكون والوجود. فالذكاء الاصطناعي ليس "محايدا"، بل سيكون مساعدا لأن تخط البشرية دروبا جديدة لا متناهية مفتوحة على آفاق مذهلة ومهولة في آن معًا.

ثانيًا: المتاعب او المشكلات والتحديات التي ستواجهنا تكمن على الحقيقة في محاولة إدارة التكنولوجيا، ما لو تحكم حفنة من البشر في المعلومات، اضافة الى توظيفه في المجالات العسكرية، لذلك فإن الدول االمنتجة للذكاء الاصطناعي اليوم لديها قلق بشأن المستقبل البعيد، حيث تعتبره محورا اساسيا في سباقها نحو السيطرة والتحكم، لا سيما بعد دخول أسلحة الذكاء الاصطناعي في سباق التسلح، فقد حذرت لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي الأمريكية مؤخرا من "أن الصين قد تحل قريبًا محلّ الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى للذكاء الاصطناعي في العالم؛ وأن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستستخدم في السعي وراء السلطة؛ وأن الذكاء الاصطناعي لن يبقى في مجال القوى الخارقة أو عالم الخيال العلمي".

ثالثًا : السؤال الجوهري الذي يقلق علماء الاجتماع وعلماء المستقبليات والفلاسفة يتمحور حول ماهو مصير الفلسفة والقيم الاخلاقية والعلاقات الاجتماعية و الفكر، وهل يمكن الفصل بين التكنولوجيا والقيم؟ بطبيعة الحال لايمكن التكهن بتمام المآلات، لكن عملية الفصل بين التكنولوجيا والافكار عملية واهمة لانها تنخرط في جملة القيم التي تُنْتجُها "الثقافة" التي ينبني عليها الذكاء الاصطناعي نفسه؛ فهو بالدرجة الاولى ينطلق من المعلومات التي لُقِّمْها، لذلك لن يُكتب لثقافة ما الاستمرار ما لم تجد لنفسها حيِّزًا فاعلا داخل المنظومة المستقبلية، فالشعوب واللغات التي ستستمر هي تلك القادرة على بلورة منتج معلوماتي قابل للتداول في عالم الغد في فضاء سيبيري لم يعد افتراضيا بل اصبح جزءًا اساسيًّا من واقعنا المعاش.

رابعًا : التحدي هو تحدّي كوكبي ولا يخص فئة بعينها، فهو بالقدر الذي يخلق فرصًا عظيمة فإنه يفتح الباب على تهديدات مروعة، وليس الأمر بسيطا كما يصوره البعض على ان هناك فئة مستهدفة من قبل آخرين، بل الأمر يطال البشرية ككل، لأن التوسع الهائل في النماذج الكبيرة للغة سيوصلنا في النهاية إلى الذكاء العام الاصطناعي الذي لن يحتفظ بالبشرية ربما إلا إذا رضي عن وجودها كحيوانات أليفة، وهو سيناريو مرعب بطبيعة الحال.

خامسًا: ان مواجهة التحديات الأخلاقية التي سيفرضها انتشار الذكاء الاصطناعي لا يكون عبر "المقاطعة" او التحذير او توجيه النيران الأيديولوجية لمن جعلناه خصمًا لنا، بل من الأجدى العمل والتعاون على صناعة "منتج فكري اخلاقي كوكبي" ينبني على قيم الحكمة المشتركة بين كل شعوب الارض، بما يضمن استمرارية الكائن الانسان وحقوقه الآدمية أينما وُجِد ولأي ملة انتمى ويحافظ في الوقت عينه على توازن البيئة الطبيعية.

أخيرًا، لا يمكن في عجالة كهذه ان نناقش موضوعًا بهذه الجدية والأهمية، ولكن فإن البشرية قد انطلقت فعلا في طورٍ جديد منذ مطلع الألفية، ومن الواجب بل الضروري العمل على ايجاد مقترب علمي اجتماعي وثقافي انساني عام يكون عابرا لكل المقتربات السابقة يتمحور حول الكائن الانساني، عبر رؤية لا تكون التكنولوجيا فيها إلا وسيلة لتحقيق مزيد من إنسانية الإنسان وكونيته واحترام جسده وحقوقه وحريته، وتحقيق مزيد من احترام الكون والبيئة والطبيعة والحفاظ عليها، واحترام الكائنات بوصفها أحد أهم التجليات الوجودية، وإضفاء لغة أخرى لفلسفة تزودنا باستراتيجية فاعلة من أجل حياة أفضل وفاتحة شوط جديد من اشواط تاريخنا البشري.