يعود التاريخ بين أوكرانيا وروسيا إلى عدة قرون ماضية منذ أيام دولة كييفان روس (Kyivan Rus). حتى اليوم، يرى العديد من الروس أنفسهم مرتبطين بأوكرانيا من خلال أجيال من الروابط اللغوية والثقافية والاقتصادية والسياسية وحتى العائلية..

أعلنت أوكرانيا استقلالها لأول مرة عن روسيا في عام 1918 بعد أن أطاح البلاشفة بالنظام الملكي في روسيا. لكن هذا الاستقلال لم يدم طويلا حيث وجد الأوكرانيون أنفسهم في صراع ضد قوات من بولندا و روسيا. واجهت الحكومة الأوكرانية آنذاك والتي تحالفت مع بولندا العديد من التحديات بما في ذلك الحرب الأهلية الروسية والنزاعات الإقليمية مع جيرانها. وفي العام 1922، أصبحت أوكرانيا في نهاية المطاف جزءا من الاتحاد السوفيتي المشكل حديثا، وهذا وضع حدا لفترة استقلالها الأولي.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلنت أوكرانيا استقلالها عام 1991. بعدها في العام 1994 تخلت البلاد طوعا عن ترسانتها النووية مقابل التزام من موسكو باحترام استقلالها وحدودها وسيادتها على اراضيها. أدت الفترة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي إلى صراع على السلطة في أوكرانيا بين أولئك الذين يفضلون علاقات أوثق مع روسيا وأولئك الذين يدعون إلى مسار أكثر قربا الى الغرب.

بعد أكثر من عقد من الاضطرابات السياسية والاحتجاجات العنيفة والعلاقة التي لا يمكن التنبؤ بها مع روسيا وضم روسيا لشبه جزيرة القرم، تم انتخاب فولوديمير زيلينسكي رئيسا لأوكرانيا في أبريل 2019 بأغلبية كبيرة. تمحورت حملته الانتخابية حول وعود بالسعي لتحقيق السلام مع روسيا واستعادة السيطرة على منطقة دونباس. و بعد توليه منصبه، اتبع زيلينسكي سياسة تهدف إلى تعزيز علاقات أوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي وسعى بنشاط إلى انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. واجهت هذه السياسات معارضة قوية من روسيا، التي اتخذت تدابير جدية للضغط على كييف في محاولة لتقويض وعرقلة مسار أوكرانيا للتقرب من اوروبا وانتهى الامر بشن حرب ضد أوكرانيا في نهاية المطاف في فبراير 2022 .

الحرب.....
في فبراير 2022، عبرت القوات الروسية الحدود إلى داخل أوكرانيا، وبدأت روسيا حربا مع الدولة السوفيتية السابقة. ادعت موسكو أن إجراءاتها العسكرية هي عبارة عن «عملية عسكرية خاصة» تهدف إلى حماية المواطنين الذين يزعم الروس أنهم عانوا لمدة ثماني سنوات من سوء المعاملة والإبادة الجماعية في ظل ممارسات نظام كييف. في الحقيقة، يمكن تلخيص الأهداف الاستراتيجية الفعلية لروسيا على النحو التالي: منع انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، الذي تعتبره روسيا تهديدا مباشرا لمجال نفوذها، والحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع أوكرانيا، وعرقلة عضوية أوكرانيا المحتملة في الاتحاد الأوروبي.

اليوم ومع اقترابنا من اليوم 600 من الصراع، تحولت الحرب في أوكرانيا إلى حرب خنادق، وإن كان باستخدام تقنيات متقدمة مثل الصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة وغيرها. وبالرغم من تلقي أوكرانيا دعما غير مسبوق من الدول الغربية إلا انها لم تحقق سوى تقدم جزئي في ساحات المعارك وبدون تحقيق اختراقات كبيرة او انجازات استراتيجية لحد الآن. من ناحيتها، تشعر روسيا بشكل متزايد بضغوط العقوبات الغربية المفروضة عليها اضافة الى التأثير الميداني للأسلحة الحديثة التي قدمتها دول الناتو إلى أوكرانيا. ومع ذلك، يجب ملاحظة أن الأراضي الروسية لم تتأثر بشكل مباشر بالعمليات العسكرية الجارية. وفي مقابل ذلك، تجد أوكرانيا نفسها منخرطة في حرب بالوكالة تهدف منها الدول الغربية الداعمة إلى هزيمة روسيا أو على الاقل إضعافها. وبسبب سير المعارك داخل الأراضي الأوكرانية، فان البنية التحتية للبلاد تضررت بشكل كبير وبعاني الاقتصاد الأوكراني والسكان من جراء العمليات العسكرية. من الواضح أن أوكرانيا هي التي تتحمل بشكل مباشر وطأة العواقب المدمرة للحرب، في حين تظل الأراضي و البنى التحتية لروسيا بمنأى عن التأثيرات المباشرة للمعارك.

أحلام أوكرانيا بالانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي
أستمر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لسنوات عديدة بالدعوة لانضمام اوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (الناتو) والحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من دعواته وجهوده الا انه لم ينجح في مساعيه في الحصول على دعوة للانضمام إلى الناتو من قمة الناتو الأخيرة في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، ولم يمنح إعلان قادة القمة أوكرانيا جدولا زمنيا للعضوية. ويبرر المتابعون بوجود تخوف لدى معظم القادة من أن منح أوكرانيا عضوية الناتو قد يثير صراعا مباشرا مع روسيا مع عواقب كارثية محتملة.

بدا زيلينسكي غير راضيا عن فكرة أن الظروف ليست ملائمة للدعوة للانضمام والحصول على العضوية الكاملة. علاوة على ذلك، في هذا السياق أشار الرئيس الأمريكي بايدن إلى أن أوكرانيا بحاجة إلى تنفيذ وتحسين نظامها الديمقراطي قبل أن تكون مؤهلة لتصبح عضوا في الناتو.

اما فيما يتعلق بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فهناك العديد من الأسباب التي تجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي قبول عضوية أوكرانيا. فمثلا لا تزال أوكرانيا تواجه تحديات من ناحية الفساد والحاجة إلى الإصلاح القضائي وفرض سيادة القانون، في حين تتطلب عضوية الاتحاد الأوروبي تلبية معايير سياسية واقتصادية وقانونية معينة، تعرف باسم معايير كوبنهاغن والتي من الواضح أن أوكرانيا اليوم لا تمتلكها.

اما من الناحية الاقتصادية فان الاقتصاد الأوكراني، حتى قبل الحرب، كان يواجه تحديات كبيرة وقد تفاقمت هذه التحديات بشكل كبير بسبب الحرب، لذا فإن دمج أوكرانيا في الإطار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي سيتطلب دعما ماليا كبيرا وتعديلات هيكلية لا ترغب دول الاتحاد الأوروبي في تحملها في الوقت الحالي.

من المهم أيضا ملاحظة أن الاتحاد الأوروبي يعاني مما يمكن تسميته بإجهاد التوسع، خاصة بعد موجة الانضمام للاتحاد في بدايات الالفية الحالية. يتطلب توسيع الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر استعدادا مؤسسيا وقدرة على استيعاب أعضاء جدد والحفاظ على التماسك بين الدول الأعضاء الحالية فعليه فان فكرة انضمام اوكرانيا الان غير ملائمة للعديد من دول الاتحاد.

وأخيرا، مع استمرار أوكرانيا في حالة حرب، هناك اعتبارات جيوسياسية يتعين على دول الاتحاد الأوروبي أن تأخذها في نظر الاعتبار بجدية قبل البت في عضوية أوكرانيا. من الواضح أن منح عضوية الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا سيثير روسيا التي هي في حالة حرب مع اوكرانيا وممكن ان يؤدي إلى تصعيد الصراع الحالي. ثم لا يزال من غير الواضح متى وكيف سينتهي الصراع العسكري الحالي وماذا سيكون موقف أوكرانيا السياسي حينها.

يجب على دول الاتحاد ان تُقّيم كل هذه العوامل المذكورة بعناية، وإلا فإن القرار اذا كان متسرعا بقبول أوكرانيا في عائلة الأوروبية فقد يؤدي إلى خروج احد او عدد من دول الاتحاد بشكل مماثل لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبالتالي من الممكن أن تتعرض سلامة الاتحاد الأوروبي ككل للخطر.

ماذا بعد...
ان امال أوكرانيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي تبدو في تناقص، وهذا قد يثير تساؤلات حول ما إذا كان سينظر إلى هذه التطورات داخل اوكرانيا على أنها انتكاسة سياسية للرئيس زيلينسكي. تجدر الإشارة هنا إلى نصيحة وزير الدفاع البريطاني بن والاس لزيلينسكي لإظهار المزيد من «الامتنان» لحلفائه الغربيين لتسليح أوكرانيا، وقال للرئيس الأوكراني «نحن لسنا أمازون» في إشارة إلى أن الغرب بدأ يضيق ذرعا بطلبات زيلينسكي المتكررة للحصول على أسلحة إضافية وطلباته الاخرى.

وقد يدفع هذا الوضع بعض الدوائر السياسية في كييف إلى التخلي عن سراب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، والنظر بدلا عن ذلك في السعي إلى التوصل إلى اتفاق مقبول مع موسكو لأنهاء الاقتتال والتي يمكن أن تكون على استعداد لتقديم تنازلات محسوبة بهذا الصدد، خاصة أن روسيا نفسها تعاني حاليا من أعباء سياسية واقتصادية ولوجستية كبيرة فرضتها الحرب التي شنتها على اوكرانيا. كما يمكن أن تؤدي حرب الخنادق المستمرة إلى تفاقم الوضع، حتى بالنسبة لدولة مثل روسيا تخوض حربا خارج أراضيها.

إنهاء الصراع سيوفر لأوكرانيا الفرصة بعودة حوالي 12 مليون لاجئ ونازح إلى ديارهم واستئناف حياتهم الطبيعية وسبل عيشهم السابقة، كما يمكن لقيادات البلد البدء بأعمار ما دمره الحرب المستمرة منذ فبراير 2022 .

لا تزال نتيجة التطورات الحالية في المشهد السياسي الغربي غير مؤكدة والمشهد لا يزال ضبابيا، وسيتعين علينا الانتظار لنرى كيف تتكشف الأحداث.