بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، شهد العالم أحادية القطب، ولكن منذ فترة، تنبأ الباحثون في السياسة بقرب نهاية لحظة أميركا أحادية القطب. تشهد الآن العالم المرحلة التالية من التنافس الجيوسياسي. يركز هذا المقال على الصراع الحالي في العالم والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على سيطرتها ونفوذها الأحادي. وعلى الجانب الآخر، يتناول جهود الصين وروسيا لتحطيم الاحتكار الأمريكي للنفوذ على المستوى العالمي.
لا يقدم هذا المقال إجابة نهائية بشأن أي معسكر سيفوز بالنهاية، بل يُلقي الضوء على الوضع الحالي في الساحة الدولية وينتظر تطورات الأحداث والتغيرات السياسية والدبلوماسية المستقبلية.

يظهر الصراع والتنافس بين حلف شمال الاطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، أن الدول الكبرى في العالم تعمل على تحديد القواعد والقوانين التي ستحكم التفاعلات الدولية مستقبلا. هذه التحولات تعكس تطورات في السياسة الدولية، وتحمل تداعيات محتملة على النظام الدولي والعلاقات بين الدول حتى الدول غير المعنية مباشرة بصراع القوى الكبرى.

أن الولايات المتحدة تشعر بالقلق من تشكيل نظام عالمي جديد، وتسعى للحفاظ على هيمنتها من خلال النظام الدولي الحالي. هذا التخوف كان جليا في تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن، حيث اكد "ان الصين أخطر تهديد طويل الأمد للنظام الدولي، وأن الصين هي الدولة الوحيدة التي تمتلك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لإعادة تشكيل النظام الدولي".

يظهر من تصريحات المسؤولين الأمريكيين أنهم يتجنبون ذكر روسيا المنغمسة في الصراع الأوكراني الحالي، على الرغم من وجود دلائل على دور روسيا في العديد من المناطق في العالم من خلال علاقاتها مع دول ليست بصديقة للولايات المتحدة، مثل إيران وسوريا وكوريا الشمالية. بالإضافة إلى ذلك، تشير الأحداث الجارية في النيجر والتي سبقتها في مالي إلى دور روسيا الواضح في محاولة خلق قطب عالمي منافس للولايات المتحدة والغرب الاوربي.

تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية، حتى ان كان جزئيا ،على الساحة العالمية بسبب قرارات إداراتها المتعاقبة في السنين الاخيرة بالانسحاب من الصراعات المسلحة المباشرة، وتمثل هذا بسحب قواتها من أفغانستان وقبلها العراق، وعدم التورط المباشر في حروب مستقبلية والاعتماد على العقوبات الاقتصادية والمالية غير المجدية على الدول والمؤسسات والافراد المعادين لسياساتها، خلق المجال للصين وروسيا بالعمل على زيادة نفوذهما العالمي بدعم من حلفائهم والعمل على كسب حلفاء جدد بغرض خلق بيئة مناسبة للعودة إلى عالم متعدد الأقطاب كما كان الحال ايام الحرب الباردة قبل تفكك الاتحاد السوفيتي.

هناك تطورات على الساحة العالمية تشير إلى إن العالم بات يعيش بوادر نظام عالمي متعدد الاقطاب، بعد أن فشل النظام العالمي الحالي في منع نشوب حرب أوكرانيا وبعدها لم ينجح في ايقاف الحرب ومنع تداعياتها وتأثيراتها حتى على الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الاوروبين الذين بدأوا يعانون من حالات تضخم غير مسبوقة وارتفاع اسعار الطاقة اضافة الى ظهور انقسام في الرأي لدى قادة دول الناتو حول الدعم العسكري والسياسي الواجب تقديمه الى اوكرانيا في الحرب ضد روسيا.

ومن ناحية اخرى فانه من الجدير بالذكر ان اخفاق روسيا في تحقيق نصر حاسم وسريع، اضافة الى تأثر اقتصادها بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها ومن كلف الحرب المستمرة، قد منح بكين دورا اكبر كلاعب رئيسي في التحالف الصيني- الروسي الذي تشكل بهدف موازنة النظام العالمي احادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ومواجهة سياساتها في منطقة المحيطين الهندي والهادي. كذلك كان لتدهور العلاقات الصينية الأوروبية وتحرك بعض القوى الاوروبية الرئيسية، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، لمحاولة وقف النمو المتسارع للاقتصاد الصيني دورا في تشجيع بكين للتقارب مع موسكو.

أن الهند المتوقع ان تصبح في المستقبل القريب في مقدمة القوى الاقتصادية في العالم، هي دولة اخرى تخشى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من تقربها من وحتى احتمال انضمامها الى التحالف الصيني الروسي ولأسباب واقعية. فمنذ بداء الحرب في اوكرانيا وفرض العقوبات الغربية على روسيا، ازداد اعتمد الاقتصاد الروسي بشكل كبير على العلاقات التجارية مع الهندو تضاعفت واردات الهند من روسيا بنسبة كبيرة بلغت 400 في المائة خلال السنة المالية2021-2022، وتعد روسيا الآن رابع أكبر شريك تجاري للهند. ومع ذلك، فإن الشكوك لا تزال تحوم حول استعداد نيودلهي للعمل والتقارب مع بكين حيث ان العلاقات بين الدولتين لا تزال تتميز ببعض الريبة والشك بسبب الاشتباكات الحدودية الاخيرة بينهما وبعض المشاكل الاقتصادية التي اثارتها مؤخرا الهند مع المستثمرين وشركات الاتصالات الصينية.

أخيرا يجب الاقرار بان جعبة الساحر الامريكي لم تخلو. فالولايات المتحدة الامريكية لا تزال تتربع على عرش العالم في المجالات الاقتصادية والعلمية والصناعية والمالية. كما ان امكانياتها العسكرية الكلية تفوق إمكانيات الدول التي ذكرناها مجتمعة. أضافة، فان واشنطن لديها علاقات متميزة مع ونفوذ واسع على العديد من الدول الاسيوية والشرق الاوسطية والافريقية مثل اليابان والفلبين والسعودية ومصر والعديد غيرها. بالتأكيد فان واشنطن لن تجلس متفرجة على محاولات سحب البساط من تحت رجليها وتقليص نفوذها عالميا.

وكمثال، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا، لن يحضر قمة مجموعة دول بريكس في شهر أب المقبل في جنوب إفريقيا خوفا من اعتقاله لان هذه الدولة الافريقية عضوة في المحكمة الجنائية الدولية وملزمة بان تنفذ مذكرة اللقاء القبض على بوتين. فهل هذا اثبات لما تستطيع الولايات المتحدة ان تفعله ضد اعدائها؟

ثم يبقى التساؤل حول مدى رغبة الصين والهند في الدخول فعليا في صراع اقطاب شامل مع الغرب والولايات المتحدة، او هل سيكتفون، كلاهما او احداهما، بتفاهمات حول امكانية التوصل الى تعاون اقتصادي عادل يضمنان من خلالها الاستفادة المتوازنة من سوق وموارد الولايات المتحدة الأمريكية ودول اوروبا.

ماذا ستحمل السنوات القادمة في ظل النظام الدولي المتغير؟ هل سنشهد عالمًا متعدد الأقطاب بكل تجاذباته وصراعاته أم ستستمر الأوضاع الحالية؟ يجب الانتظار ومتابعة التطورات الدولية لمعرفة الإجابة على هذه الاسئلة.