بشكل مثير للاستغراب، اعلنت منصة يوتيوب، في الايام الماضية، عن قيامها بإزالة مقطع للممثلة الامريكية روزان بار بعد ان قالت نكتة عن الهولكوست اليهودي، وذلك في حديثها مع مضيفها ثيو فون، وفرضت المنصة حظرا لمدة اسبوع عن قناة فون.
منصة يوتيوب، العائدة لشوكة غوغل، اكدت، وعلى لسان المتحدث باسمها جاك مالون بان القناة وجهت تحذيرا لقناة ثيو فون، بسبب انتهاك سياسة خطاب الكراهية، الذي يمنع الترويج للعنف ضد الافراد او المجموعات استنادا لسمات معينة مثل العرق والدين!
هذه القرار الصادر من منصة يوتيوب وما يكتنفه من دلالات او يترتب عليه من مآلات، هو أفضل مثال آني يصلح كمقدمة للحديث عن الموضوع الذي شغل، هذه الأيام، أكثر من مليار مسلم بعد قيام شخص "مغمور" يُدعى سلوان موميكا بالإساءة للمصحف الشريف عدة مرات، قرب جامع في ستوكهولم، وامام السفارة العراقية والبرلمان السويدي، وقد سمحت المنصات قاطبة لموميكا بنشر المقطع المسيء الذي استفز وجدان ملايين المسلمين.
بادئ ذي بدء يجب ان نعترف او نذكّر القارئ ببديهية تتحكم في العصر الرقمي، وهي ان منصات التواصل الاجتماعي شكلّت القنوات الرئيسية التي نقلت ما قام به موميكا، وشاهد، بسببها، الملايين، العمل الذي قام به، ولو ان المنصات قامت بعمل حظر لحسابه او للمقطع الذي قام بنشره لما وجدنا ردة الفعل التي حصلت على هذا النحو الذي شاهدنا تداعياته.
دعونا أولا ان نشير الى ان المنصات، بكافة اشكالها، تعمل من خلال معايير معينة هي عبارة عن قواعد تتحكم بما يجوز وما لا يجوز ان يقوم بنشره المستخدم فيها، حيث ان جميع مواقع التواصل، بدون استثناء، تعتمد على مبادئ لتنظيم عمل المواد التي يتم نشرها على منصاتها تحت مسمى معايير النشر.
وعندما نراجع معايير مواقع التواصل التي تسمى Community Standards عند ميتا و Rules and Policies لدى توتير أو Community Guidelines في منصة تيك توك أو Community Guidelines & Policies لدى يوتيوب، نجد انها تمنع وتحارب خطاب الكراهية وما يؤدي اليه باي شكل من الاشكال، وانها تتفق على أن المقطع الذي يتضمن خطاب كراهية أو يثيرها ويحرّض عليها يجب حذفه منها.
وبعيدا عن الدخول لتفصيلات هذه القواعد في كل المنصات، فأننا نكتفي بالحديث بإيجاز عن شركة ميتا، في هذا الصدد، حيث وجدنا انها حددت أربعة مبادئ أو قيم تطالب مستخدم المنصة بالالتزام بها وهي: المصداقية والسلامة والخصوصية والكرامة، وفي المبدأ الأخير ترى المنصة وتشدد على مطالبة مستخدميها باحترام كرامة الأشخاص وعدم نشر ما يمكن أن يسيء لهم أو يقلل من قدرهم.
وتتفرع أيضاً من هذه المبادئ الأربعة عدة معايير أو شروط خدمة، وأولها منع العنف والسلوك الإجرامي الذي تحظر فيه شركة ميتا المستخدم من السلوك المتضمن عنفا أو التحريض عليه.
ويجب التنويه الى أن شركة ميتا قد حذرت، في صفحة كاملة بموقعها الرسمي، من خطاب الكراهية، وطالبت المستخدم بأن يتجنب نشر أي محتوى يهاجم الناس بناء على عرقهم أو قوميتهم أو انتماءاتهم الدينية وتوجهاتهم الجنسية وإعاقاتهم وغيرها، وكررت بأن المنظمات والأشخاص الذين يروجون للكراهية ضد الحالات المذكورة أعلاه لن يتم السماح لهم بالتواجد في منصاتها.
وبدون التعمق في دلالة سلوك الإساءة او حرق المصحف، فأن هذا المقطع، وأمثاله من المقاطع، ينطبق عليها تعريف خطاب الكراهية او يحرّض عليها والتي تُجمع كافة المنصات على أنه ضد معاييرها، ولا تسمح له بالتواجد في منصاتها، وبرغم ذلك سمحت المنصات بتواجد هذه المقاطع بل سمحت أيضا، مثل تطبيق تيك توك، بالبث المباشر لسلوك موميكا المشين امام السفارة.
من وجهة نظري المبنية على دراسة معمقة لمعايير المنصات، اود ان أقول وبكل ثقة بأن المنصات لو أرادت حذف المقطع او حظره لقامت بذلك سواء باعتباره مخالفا لمعاييرها كما أوضحنا أعلاه، أو استنادا للقواعد الخاصة السرية التي تقوم بتطبيقها على بعض الحالات تحت برنامج Cross check كما فعلتها مع اللاعب نيمار دي سيلفا والرئيس السابق دونالد ترامب والسيناتور اليزابيث وارن وأكثر من 5 مليون شخصية، أو طبقا للقواعد الظرفية التي تعمل بها معاييرها في زمان أو مكان معين، كما وجدنا في أحداث كورونا التي اضطرت المنصات لوضع معايير خاصة بها لمواجهة أضرار الأكاذيب المتعلقة بها.
أن هنالك عشرات الأسباب والمبررات التي تستطيع المنصات الاعتماد عليها في قرارها ضد هذه المقاطع، واستغرب من حقيقة انها قامت بذلك وطبقتها في حالات معينة أقل أهمية من هذه المقاطع أو احتمالية الأضرار المترتبة عليها، مع الإقرار بأن المعايير ليست نصوصا ثابتة والمنصات تعدلها وتغيرها طبقا لقراءتها للأحداث ومجريات ما يحصل فيها.
وهذا يعني بشكل واضح ان المنصات الرقمية تغاضت، بكل جلاء، عن معاييرها، وتجاهلت قواعدها فيما تعلق بمحاربة خطاب الكراهية المتمثل في الإساءة للقرآن الكريم، ولا يوجد هنالك أي مبرر ممكن ان تلجأ اليه هذه الشركات صاحبة المصالح الكبرى، لإبقاء هذه المقاطع على مواقعها برغم معرفة ضررها وما يمكن ان تقود اليه.
ووفقا لرؤيتي، ومعرفتي بسلوكيات المنصات، فان المسلمين، او الدول الإسلامية والعربية على نحو ادق، تستطيع ان تنسق فيما بينها وتشكل مجموعة ضاغطة تؤثر على قرار المنصات في هذا الجانب، ومن الممكن ان تتعامل مع الأخيرة بشكل مشابه لطريقة تعامل الاتحاد الأوربي مع شركة ميتا.
وما حدث أخيرا حينما أطلقت ميتا تطبيق ثريدز نموذج آخر لما اتحدث عنه، حيث لم تُطلق الشركة التطبيق في دول الاتحاد الأوربي ومنعت حتى استعمال VPN أو الشبكة الخاصة الافتراضي للوصول له، بسبب قضايا تتعلق بالخصوصية وبيانات المستخدمين التي يريد الاتحاد الأوربي توضيحها من جانب المنصة قبل إطلاق تطبيقها فيها.
وبدون أي تحرك من الدول العربية او الإسلامية تجاه هذه الشركات، لمعالجة مختلف القضايا التي تتعلق بمواد النشر وامان المستخدمين وبياناتهم، ومن غير تهديد الأخيرة بالحظر والمنع وخسارة المستخدمين والاعلانات، فان أي تغيير لن يحدث في سياسة المنصات التي لا تعبأ بهذه الدول ولن تقيم لها اعتبار كما تفعل ذلك مع دول الاتحاد الأوربي.
انني اعتقد ان حادثة الإساءة للقران وسماح المنصات الاجتماعية لنشر المقاطع المتعلقة بها، هي فرصة سانحة لدى الدول العربية او الإسلامية لتشكيل اتحادات افتراضية تعمل على وضع أسس وقواعد للتعامل مع المنصات وإيقاف جبروتها وابتزازها للدول وتلاعبها بأمنها على النحو الذي اتضح للجميع خلال السنوات الماضية.
التعليقات