تتقافز إلى رأسي أسئلة مزعجة، كلما فتحت المصحف الشريف، وقرأت سورة "المطففين": هل يستحق من ينقصون الأوزان بطريقة طفيفة، أو يتلاعبون فيها إلى سورة كاملة تتحدث عنهم وتتوعدهم بالعذاب؟! لماذا خص الله المطففين بالذكر في سورة قرآنية كاملة، تتلى آياتها إلى يوم القيامة؟ هل المطففون الذين كانوا ينتشرون في المدينة المنورة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قبلهم قوم نبي الله شعيب، مازالوا موجودين في عصرنا الحالي؟!

لماذا لم يأت ذكرهم في آية أو عدة آيات في سياق سورة أخرى؟ ألهذا الحد المطففين خطر على المجتمع؟!

والحق، إنني حاولت التفكير أو البحث عن تفسير في الكتب السابقة لكل هذه الأسئلة، إلا أنني لم أصل إلى إجابة شافية أو جامعة مانعة، إلى أن بدأت الأزمة الاقتصادية تشتد علينا في مصر، وهداني الله سبحانه وتعالى إلى التدبر في هذه السورة، وذات ليلة قرأتها نحو 11 مرة، ووقفت كثيرًا عند آياتها، وأخيرًا هداني الله إلى أن المطففين مازالوا موجودين في عصرنا الحالي، بل هم أكثر توحشًا وشراسة من مطففي المدينة المنورة أو مطففي قوم نبي الله شعيب.

يقول المولى العزيز الحكيم في سورة "المطففين": (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

وحسب معجم المعاني فإن التطفيف في اللغة، البخس في الكيل والوزن، وهو نقص يخوّن به صاحبه في كيل أو وزن، وهو ضد التوفية. والمطففون جمع مطفف، من الطفيف، وهو الشئ التافه الحقير، لأن ما ينقصه المطفف من غيره شيء قليل.

قال الإِمام ابن جرير: وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، وهو القليل النزر. أما المطففون في الشرع؛ هم أولئك الذين ينقصون المكيال والميزان، فإِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم، وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصون الكيل والوزن.

وعن سبب نزول سورة المطففين ذكر العلماء أنها نزلت في رجلٍ يُعرف بأبي جهينة كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، وقالوا إن التطفيف كان متفشياً في المدينة في أول الهجرة. وعن ابن عباس قال: (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز وجل: "ويل للمطففين" فأحسنوا الكيل).

هل هذا الشيء النزر الحقير، يستحق كل هذا الوعيد من الله القاهر فوق عباده؟! والإجابة: نعم. لأن المولى العزيز الحكيم، يعلم تمام العلم أن التطفيف هو آفة خطيرة، لو استشرت في المجتمع سوف تنزع من البركة، وتؤدي إلى تفشي الجريمة الاقتصادية، وسوف تؤدي إلى ظلم للناس في حقوقهم، المادية والمعنوية، وتؤثر على أقواتهم.

وبعد أن هداني الله إلى النظر والتدبر فيما يخص المرحلة الراهنة، وجدت أن المطففين لم يعدوا تجارًا صغارًا في الأسواق الشعبية يبحثون عن النزر الحقير من وراء البيع بأوزان أقل من المتعارف عليها، بل أصبحوا شركات كبيرة، تمارس التطففين عيانًا جهارًا، بل إن التطفيف في الكيل والميزان هو الأصل، والكيل بالعدل هو الفرع أو غير الطبيعي.

وحتى لا يكون الكلام مرسلًا، يمكن لأي شخص أن ينزل إلى الأسواق أو السوبر ماركت أو المولات التجارية، وسوف يجد أن الكيلو جرام المعروف منذ زمن بعيد أنه يساوي ألف جرام، أصبح 800 جرام، ثم نقص إلى 750 جرامًا والآن صار 700 جرامًا، وأصبح النصف كيلو 400 جرام أو الربع كيلو 200 جرام، ونجد ذلك في عبوات فاخرة من صنع شركات كبرى. يحدث ذلك في السلع الغذائية الإستيراتيجية مثل السكر والأرز والدقيق والزيت والألبان، ولو ذهبت إلى البائع سوف تجد عنده عبوة واحد كيلو، ولكن سعرها أغلى، وسيقول لك التاجر متفاخرًا: هذا كيلو كامل"!

بعد تفشي الأزمة الاقتصادية، أصحبت الغالبية العظمى من الشركات تسعى إلى الحفاظ على المكاسب الضخمة، من خلال تخفيض الأوزان، والحفاظ على الأسعار القديمة لفترة يسيرة، ثم ترفع السعر على الوزن المطفف، ليتعود الناس على الأوزان المطففة، وزيادة في الفحش تفعل الشركات ذلك جهارًا نهارًا، وأصبح المطففون رجال أعمال أصحاب ثروات ضخمة، وليسوا مجرد تجار صغار في الأسواق الشعبية.

اقتصاد التطفيف، كان سببًا في هلاك الأمم السابقة، ومنها قوم نبي الله شعيب، كما أخبر عنهم القرآن الكريم في سورة هود الآية 85، التي قال فيها المولى سبحانه وتعالى: (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ). ولما رفض قوم شعيب الاستماع إلى نصائحه، والكف عن التطفيف في البيع، ورفضوا العدل في المعاملات التجارية، وأصروا على جمع الأموال بهذه الطريقة المنكرة، أهلكهم الله بالصيحة، وقال العزيز الحكيم: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ".

اقتصاد التطفيف لم يتسبب في هلاك قوم نبي الله شعيب فقط، بل تسبب في تدمير أمم أخرى، وتسبب في اندلاع الثورة الفرنسية، وحسبما ورد في كتاب (طبقات المجتمع الأوروبي في العصر القديم)، فإن الاقتصاد الفرنسي في بداية القرن الثامن عشر، كان يعاني من التطفيف، وجاء في الكتاب: "ظلت آلاف الحوانيت، المشهورة بشعاراتها الرائعة المثيرة، على حالتها من الفوضى في الموازين والمقاييس المتضاربة والمشتبه فيها، إلى أن وضعت الثورة النظام المتري (العشري). وكان هناك أصحاب حوانيت أمناء في "متاجر الثقة"، ولكن الغالبية اشتهرت بالتطفيف في المقاييس والتلاعب في الأسعار ورداءة أنواع السلع. وكان الفقراء من الناس يعتمدون في شراء حاجياتهم أساساً على الباعة المتجولين، وزاحم الرجال النساء والأطفال الفئران في مسابقة الحصول على الطعام".

إن المطففون الجدد الذين يمثلون شركات كبرى مملوكة لرجال أعمال جمعوا ثرواتهم من لحوم ودماء الناس، ويجب أن تكون هناك وقفة حازمة معهم، لأن هذا التطفيف الذي نهي عنه الله في القرآن الكريم، وتوعد أصحابه بـ"الويل" يوم القيامة، لن يؤدي إلى انتعاش اقتصادي، بل يؤدي إلى المزيد من التدهور والإفقار للطبقات الدنيا التي لم تعد قادرة على توفير مستلزمات الحياة، من مأكل وملبس.

في مصر العديد من الأجهزة الرقابية التي تتولى عمليات الرقابة على الصناعة أو التجارة، ويمنحها القانون الضبطيات القضائية، إلا أنها لا تمارس دورها بالشكل الكافي، ضد المطففين الجدد.

اقتصاد المطففين الجدد معدوم البركة، ويلتهم أموال الناس بالباطل، ويشيع الشعور بالإحباط، وأكاد أجزم أنه زاد من صعوبات الأزمة الاقتصادية على الناس، ولاسيما الطبقات الفقيرة المطحونة.