في تاريخ وجوده لم يفارقه الملل إلا لفترات بسيطة، بل كان رفيقه الدائم، ودافعه لإرتكاب الحماقات، إنه الإنسان؛ الهارب من الملل إلى ملل أخر أقل شقاءً، الملل يشكل خطرًا وجوديًا بالنسبة للإنسان، ومن الممكن أن يبذل الأخير كل مساعيه هربًا من هذا الشعور المزعج، حتى ولو كانت تلك المساعي مؤذية وضارة.
تجربة علمية
سنة 2014م في جامعة "فيرجينيا" أجرى باحثون تجربةً على الطلبة أكتشفوا: أن 25% من المشاركات و67% من المشاركين عندما تُركوا لوحدهم في مساحة فارغة وبجوارهم صاعق كهربائي، لم تمضي 15 دقيقة إلا وقد ضاقوا ذرعًا وبادروا بصعق أنفسهم بالكهرباء! هربًا من الملل.
الحرمان الحسي
عندما لا تفعل، لا تسمع، لاتحس، لا تشم، لا تذوق، قد يصيبك الملل وتبدأ بالهلوسة، تشير العديد من الأبحاث التي أجراها أطباء الأعصاب، أن تأثير الملل على الإنسان قد يساوي في بعض الحالات تأثير المواد المخدرة. المخ عندما لا يجد شيئًا يحدث من حوله، يبدأ بإيهام نفسه أن هناك شيئًا يحدث، وتسمى هذه الظاهرة بالحرمان الحسي. جرب أن تسمع صوتًا واحدًا لمدة معينة، أو تغمي عينيك لفترة طويلة، حتمًا سَتُراودكَ الهلاوس والأوهام، كما أن الحرمان الحسي يستخدم كأحد أشكال التعذيب في بعض السجون.
ملازمة الملل للإنسان
ملل الإنتظار، ملل العلاقات، ملل العمل، ملل الطريق، كلها مشاعر تراودنا بين حين وآخر، وتختلف حدتها بإختلاف مدتها وطريقة تفكيرنا بها. يخبرنا الواقع بأنه لا مناص من الملل ولا نجاح إلا بالصبر على لحظات الملل. تحمل الطالب لحظات النفور التي يعايشها أثناء مذاكرة الإمتحان، والموظف لحظات الرتابة والروتين في عمله، والقارئ صفحات كتابه الطويل، كلها لحظات مملة تقود لنتائج جيدة ونافعة فيما بعد. والهروب منها له عواقبه الوخيمة. فالطالب سيرسب، والموظف سيُقّال، والقارئ سينصرف لعمل غير نافع.
يتوق بعضنا للزواج بمن أحب لكن حرارة هذا الحب لا تستمر على وتيرة متصاعدة، فبعد الزواج والتلاقي الدائم، ستختلط أحاسيس الألفة بمشاعر الضجر. ما سبق يؤكد أن الملل داء مزمن وملازم للوضع البشري. ولكنه إذا تفاقم في حياة الإنسان فإنه يفتك به، والكثير من أمور حياتنا لا يطرأ عليها التغيير والتجديد إلا بعدما نشعر بالملل.
الملل: دافع للتجديد أم محفز للإنحراف؟
في أحيان ليست بكثيرة يكون الملل فاتحة خير ومنبهًا يذكر من أصابه أن الوقت قد حان للتجديد والتغيير، أن المكان غير صحيح، أن الوضع غير صحيح، قد يقود الملل المرء إلى إحداث تغيير وخوض تجربة جديدة كالعمل التطوعي، أو تجديد في نمط حياته الرتيبة. وعلى النقيض تمامًا قد يؤدي الملل بصاحبه إلى تبني عادات غير سوية كالتدخين، والإدمان، كما حدث لنفر غير قليل من شبابنا اليوم. يقول الفيلسوف البريطاني "برتراند راسل": "نصف خطايا البشر تنشأ عن الخوف من الملل".
حياة الرتابة والتكرار؛ مؤلمة ومملة ومنفرة وكئيبة في أحيان كثيرة كما أن رفضنا لما نحن عليه أي تمردنا على الواقع، قد يكون مسببًا للملل، وعلى النقيض تمامًا من الممكن أن يساعدنا في تجاوزه. الملل يا عزيزي القارئ ملازم لدوران الزمن على أي شيء فيه تكرار. معنى ذلك أن المتوقع دائمًا ممل، والعيش في دائرة المتوقع هو جوهر الملل. ومن هنا ينبثق سؤال جوهري وهام: هل بحثنا عن اللامتوقع دواء لداء الملل؟
بنظري أن اللامتوقع يصبح متوقعًا، فحياة الشرطي والمفتش مليئة بالأحداث غير المتوقعة، ويعتريها شيء من الإثارة والغموض، ولكنها مع التكرار تكون متوقعة ومملة، ولنفترض أن الشرطي واجه موقفًا مختلفًا كل يوم، ألا يوجد وقت محدد يفرغ فيه من العمل وينصرف؟ ويا ترى ماذا سيفعل في هذا الوقت؟ ولديه تقاعد في الأفق قد يهدده بالملل؟ وهنا أردت تأكيد نقطة هامة أن دائرة اللامتوقع لا تتاح على الدوام، والملل ملازم للإنسان طيلة حياته كما أوردت آنفًا.
كيف نتحرر من الملل؟
هناك قاعدة رواقية تقول: لا تسوء الأشياء لكن تسوء أفكارنا حول الأشياء. وحري بي أن أنوه أن الإنعتاق من الملل لا يكون بالترويح والبحث عن سبل التسلية. هذه ملهيات مؤقتة، تمنعنا من التفكير بمنطق صحيح. وحيلٌ نلجأ لها للهروب اللاعقلاني من التفكير. فالملل ليس سيئًا على إطلاقه، بل له محاسن كثيرة فهو فرصة للتفكر والإنتباه في أننا ندور في حلقة مفرغة وأن الأوان للتجديد.
خلاصة القول: أن ما يجلب الملل ليس الملل في حد ذاته، بل طريقة تفكيرنا نحو الملل وسباتنا العقلي قد يحرمنا فرص التغيير التي لو لا جرس الملل لما وعينا بها. عندما يراودك الملل، تعلم فن حَبّْك المفاجآت، فن التغيير الهادف، وقبل كل هذا فكر بتأني.
التعليقات