لم يحاربوا ولن يحاربوا ولا يمتلكون من إرادتهم شيئا، ولن يخرجوا عن إطار الدور المرسوم لهم، وبلاءٌ عظيمٌ بُليت به شعوب المنطقة المخدر والمغرر ببعضها ولا زالت لم تتطهر بعد..
يُخفق من يُهمل قراءة التاريخ في صياغة مفاهيمه ورؤيته ليس على الصعيد السياسي فحسب بل وعلى كافة الأصعدة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وعلى الأقل قراءة ما يتعلق بنا وما حولنا خلال مئة عام للإرتكاز عليها والمضي للإمام هرولة أو سيراً أو زحفاً، واعتاد البعض على الزحف بتأني في المنام، والمضي هرولة وقفزاً للإمام بالخُطب والشعارات وهكذا هو محور المراوغة الذي لم نُسقط عنه نحن مصطلح الممانعة بل هو من أسقطه، وقد بحثنا عن إسماً ووصفاً مناسباً ومنصفاً فلم نجد أفضل من تسمية المراوغة وهي تسمية فضفاضة تُتيح للمراوغين مساحة واسعة للتبريرات والهروب للأمام وكذلك العودة لجادة الصواب إن أرادوا ذلك.
يعتقد البعض أن عودتهم لجادة الصواب أمراً غير ممكن لأن في ذلك نهاية دورهم أي نهاية أمرهم، وبالتالي فإن الأفضل لهم هنا الاستمرار بالسمع والطاعة، ويكون إثبات وجودهم من خلال الخطابات النارية والعبارات الحماسية المؤجِجةِ لمشاعر البسطاء والخاوية عقولهم، وكذلك يكونون مستعدون للتضحية إن تطلب الأمر شأنهم شأن سلطات الاحتلال في فلسطين المحتلة كي تستمر قوة عصر فكي الكماشة على العرب، وتتكشف الحقائق يوماً بعد يوم خاصة مع انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة التي توفر كيفية تبادل المعرفة أكثر من ذي قبل حيث لم يكن سوى الكتاب الذي لم يكن متوفراً بسهولة كما هو متوفر الآن ورقيا وإلكترونياً.
غزة تقصم ظهر الجميع وتفضح المستور
يقولون رب ضارة نافعة، وغالبا ما تكون في طيات الشر رحمة، فعلم الرغم من هول الهلاك الدائر في غزة قد فضحت أحداث الحرب الوحشية ومجاز الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة مدى زيف وكذب شعارات الغرب وإنسانيتهم ومدنيتهم للعلن أكثر فأكثر من ذي قبل؛ وفي الوقت زينت تلك الأحداث المدعين والمراوغين بزينة العار، ويكون العار زينة عندما يكون جزءاً من ثوابت البعض، و(الموت ولا العار.. والعار أولى من دخول النار)، كذلك باتت الصراعات الداخلية في الغرب عاملاً هاماً في فضح المستور بين محور المناورة والغرب بشكل مباشر وغير مباشر، وأخر الفضائح كان حديث ترامب الذي جاء متطابقاً تماماً مع المواقف والخطابات والتصريحات الصادرة عن جميع الأطراف في الآونة الأخيرة، علماً بأن ترامب لم يُفصح عن كثير فهو ليس بالساذج أو العفوي كما يظنه البعض، ولا يمكن لرجل أعمال وسياسي ناجح أن يكون ساذجاً، وقد سبقه البعض إلى فضائح مماثلة تبين أن هناك أموراً متفقٌ عليها من بينها مساحة متاحة للتصريحات، وبينما يسمح الأمريكان للملالي ومرتزقتهم بإطلاق صواريخ هنا وهناك بعيداً عن الأهداف من باب حفظ ماء الوجه لكنهم اليوم لا يسمحون لهم اليوم بإطلاق طلقة واحدة، وشخصياً حصلت على إجابة لتساؤل في نفسي هو تساؤل معاد لأحد قادة حرس ملالي طهران إذ يقول هذا الحرسي متسائلا: "متى يُسمح لنا باستخدام قدراتنا الهائلة" وفي مقالٍ سابقٍ أجبت ومن يمنعك؛ لكن السؤال بقي عالقا في ذهني وأريد إجابة مؤكدة له وليس تخميناً أو افتراضاً؛ وقد أجابت الأيام لي عن السؤال بشكل قاطع.
مصداقية الممانعة من مصداقية عروبة نظام الأسد
من يقرأ الأحداث التاريخية ويحللها جيداً يتساءل كيف وصل حافظ الأسد ابن أقلية الأقلية إلى سدة الحكم في سوريا البلد العربي الذي لا يمكن لشعبه ذو الأغلبية المذهبية السُنية لو كان له الخيار من أمره أن يقبل بأن يحكمه علوي نصيري وكل الاحترام لكافة أشقائنا الأحرار في سوريا على اختلاف مشاربهم لكننا نكتب بموضوعية، وبالعودة للوراء قليلا نجد أن فرنسا لا تزال يداها تعبث في الداخل السوري، وأفضل الخيارات لدى الفرنسيين عنصر من أقلية الأقلية يلبي طموحها، ومن وضع حافظ الأسد على سدة الحكم هو وحلفائه من جاءوا بخميني على طائرتهم إلى طهران بعد بضعة أشهر لا أكثر قضاها خميني في فرنسا، وقد كان في ذلك رسالة بليغة لم يفهمها البعض في حينها.
تتمحور الممانعة في المنطقة حول عروبة الأسد المشكوك فيها وعمامة خميني التي لا علاقة لها بالدين على الإطلاق، وعروبة الأسد وحزبه (حزب بعث الأسد)لا أساس لها من الصحة بدليل حرب الثماني سنوات التي شنها الملالي على العراق فالأسد لم تمنعه عروبته من دعم الملالي في حربهم ضد العراق العربي وكلا البلدين يقودهما حزبٌ واحد وهو حزب البعث العربي الاشتراكي ولم تكن لدى الأسد (أمة عربية واحدة ولا رسالة خالدة.. كانت مهمة خالدة)، وهنا سقطت مصداقية عروبة الأسد وحزبه في سوريا، وبالتالي تسقط مصداقية الممانعة القائمة بالشراكة مع سوريا وتصبح مراوغة؛ في حين أثبت الزعيم الراحل الخالد أبو عمار رحمه الله مصداقية عروبته وأصالته ونضاله وثبات فكره ومبادئه عندما رفض التعاون مع خميني ضد العراق ما دفع خميني إلى ممارسة العداء علنا ضد منظمة التحرير وأوعز بقتل الفلسطينيين في المخيمات بلبنان على يد أحد أطراف الممانعة "التاريخ لا يظلم ولا يرحم"، ومات حافظ الأسد وأبقى الغرب على نظامه في سوريا لإبنه بنظرية وراثة جمهورية مبتدعة، وعلى الرغم من شدة ضعف ابنه وتهالك نظامه وعظمة الثورة المتأججة ضده وتعاظم الصيحات العالمية في وجهه إلا أنهم لم يسمحوا بإسقاطه وهو في أشد حالات ضعفه، وكيف يسمحون بإسقاط شق المراوغة الذي لم يٌطلق على الجولان عصفوراً حقيقياً واحداً، ومات ياسر عرفات مظلوماً شهيداً مغدوراً وبقي خالداً، أما الشق الثاني من المحور وهي العمامة فلم تتعدى كونها مجرد قطعة قماش لكنها أسقطت اليوم وشوهت رمزية مقدسة للدين بعد مسيرة طويلة حافلة بالدم والظلم والخروج وأقسى أنواع المعاناة؛ فإن كانت لقطعة القماش تلك رمزية علمية فقد أهانها معتمروها، وإن كانت لها رمزية مسار ديني بعينه فقد شوهته وأهانته أيضاً، وأورثت ذلك الهوان لمسيرة دمار مستمرة إلى اليوم بنتائجها الكارثية في فلسطين والعراق واليمن وسوريا ولبنان.
غَررُوا بالفصائل الفلسطينية المسلحة بعيداً عن قادتها السياسيين الذين قوبلوا بالأمر الواقع فيما بعد؛ حيث أغرى الملالي الفصائل المسلحة التي تهيمن عليها بالقيام بعملية طوفان الأقصى التي كان الأمريكان بانتظارها أو انتظار حدث مماثل كي يقدمون على تلك الخطوة العسكرية الجبارة هم وشركائهم؛ كذلك كانت سلطات الاحتلال بانتظارها وفق مخطط تغيير الشرق الأوسط الذي تحدثت عنه هي والإدارة الأمريكية في آن واحد، وقد يكون ذلك هو سبب الخنوع الغربي وقبوله بقتل الأبرياء وبمجازر الإبادة الجماعية ومحو غزة على الرغم من وجود اتفاق مع ملالي طهران بهذا الخصوص ودليل هذا الاتفاق هو دفاع الأمريكان والغرب عن الملالي بقولهم لا توجد أدلة مباشرة حول تورط الملالي في عملية طوفان الأقصى، وحمل الجميع الشعب الفلسطيني تبعات هذه العملية وفق نظرية جديدة وهي نظرية حق بقاء المحتل في البقاء والدفاع عن نفسه، وغدروا بالفلسطينيين الذين لم يجدوا أمامهم سوى إما الاستبسال وإما الموت في معركة غير متكافئة، وبدأت سلطات الاحتلال الحرب وكأنها مخطط لها من قبل بحجم خسائر مرتقبة وخطط أمنية وإعلامية خاصة، وفي خِضم تلك الأحداث لم نرى سوى الجانب الفلسطيني الوحيد الذي ينشر صور ضحاياه إثباتاً للمصداقية ومع ذلك طعنوا في مصداقيته، وقالوا العدد قليل، ثم قالوا للمعتدين سنزودكم بالأسلحة المفيدة لقتل المزيد من الفلسطينيين.
لم يحاربوا ولن يحاربوا بل اتبعوا وسيتبعون سبيل المراوغة
يقول السيد مسعود رجوي رئيس المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية وهو أعلم الناس بنظام ولاية الفقيه وما يُسِره وما يُعلِنه وذلك في رسالة موجهة له بتاريخ 6 نوفمبر 2023 حول طريقة تفكير خامنئي وأهدافه من إثارة الحرب في المنطقة، يقول: لم يكن خامنئي ينوي أبداً خوض حرب مع أميركا وحرب مواجهة مع إسرائيل ذلك لأنه سيخسر فيها، وفي النهاية سيفقد كرسي ولايته وهیمنته علی نظامه؛ ناهيك عن أن أمريكا نادمة أيما ندم على ما فعلته في العراق، ومن جانب آخر یعرف النظام جيداً أن أميركا هذه الأيام تشغلها قضیة رهائنها أکثر من أي شيء آخر.. إنه يفكر في منع اتساع رقعة الحرب التي ستطال النظام بطبيعة الحال، ويُضيف السيد رجوي قائلاً: حتى في عهد ترامب کان خامنئي علی یقین أنه لن تكون هناك حرب، وقال خامنئي في 13 أغسطس 2018 اسمحوا لي أن أقول للشعب الإيراني كلمتين باختصار: لن تكون هناك حرب ولن نتفاوض… لن تكون هناك حرب؛ لماذا؟ لأن الحرب لها جانبان: نحن من جانب، والطرف الآخر هو الجانب الآخر؛ حسناً، نحن لا نبدأ بالحرب… الجانب الأمريكي والأمريكيون أیضاً لا يبدأون الحرب.
ويصف السيد مسعود رجوي بيت ومكتب خامنئي بأنه أكبر مركز للإجرام، ويضيف قائلا: لكن أصحاب سیاسة الاسترضاء والمهادنة وداعمي هذا النظام والقائمين بتبرير أعماله وتجمیله وعملاء النظام يعزفون سمفونية مشتركة ویحذّرون من الحرب ضد النظام، وبوسعهم أن يواصلوا ما يسمونه بـ «الحوار البناء» و«الحوار الانتقادي» مع نفس النظام لمدة أربعين عاماً أخرى وأن يشيدوا بإصلاحات محمد خاتمي واعتدال حسن روحاني! لكن الشعب الإيراني يقول انتهت هذه القصة.
ويضيف السيد رجوي في رسالته الآن وفي 6 نوفمبر 2023 أي بعد شهر من تأجیج خامنئي لهذه الحرب لابد من القول بصراحة إنه جنی حتى هذه اللحظة الحد الأقصى الذي كان يريده بجميع جوانب الحرب في غزة، وهو يسعى أن لا يخسر حصيلة جهده، وإذا كان بمقدروه الإضافة فسيضيف، ونكرر لقد جعل من قضية فلسطين ذريعة ليجد من خلالها مهرباً له من مواجهة انتفاضة الشعب الإيراني والسقوط الحتمي؛ وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من أي طرف ومن أي جهة كانت ستأتي بنتائجها لصالح خلیفة الکهنوت الرجعي في إيران؟
هنا وبالنتيجة يُثبت التاريخ وتُثبِت الأحداث على مر تاريخ هذه المرحلة بأن تيار الممانعة لم يكن سوى تيار مراوغة ولم يصل حتى لمستوى المناورة، ولا علاقة له بالعروبة في سوريا ولا بالإسلام والمذهب الجعفري في إيران، وأن كلا النظامين في سوريا وإيران بوصلتهما واحدة ومرشدهما وحاميهما واحداً، وستبقى محنة الشعب الإيراني والشعب الفلسطيني وشعوب سوريا والعراق واليمن ولبنان، وستبقى المنطقة مهددة لطالما بقي النظامين قائمين في الوجود، وبطحن رأس الصنم الأكبر في طهران يدخل الصنم الأصغر في سوريا في غيبوبة تقوده إلى مثواه الأخير.. وسيحدث.
التعليقات