في أوج الحرب، قدم المكتب الاعلامي الحكومي في غزة أرقاما أولية تكشف حجم الدمار الذي خلفته المواجهة الأخيرة بين حركة حماس وإسرائيل. ووفقًا للمصادر، تم تدمير نصف المباني في مدينة غزة تمامًا، مع خسائر مادية قدرها ما يقارب 2 مليار دولار. وبشكل طبيعي، تأتي هذه الأرقام بهدف استقطاب الدعم المالي وطرح قضية إعادة الإعمار، وذلك بالتزامن مع القمة العربية الإسلامية في الرياض.

قبل هذه الحرب الأخيرة بأربعة أشهر، نظم عشرات المتضررين من حرب 2014 وقفة احتجاجية أمام مقر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، مطالبين بالتعويضات التي لم يتلقوها رغم مرور 9 سنوات على تلك الحرب. وطالبت اللجنة العليا لمتضرري حرب 2014 المؤتمر الدولي للمانحين في نيويورك، بتوثيق 7860 عائلة لم تتلقَ أي دفعة تعويض من الأونروا، مع تلقي 9008 عائلة دفعة واحدة فقط، في حين استلمت 42000 عائلة مبالغ تراوحت بين 100 و1000 دولار. وتُظهر هذه التكاليف الزهيدة عدم انعكاسها للأضرار الحقيقية التي لحقت بالممتلكات والمنازل.

بين التعويضات التي ترعاها الأونروا وجهود إعادة الإعمار التي تتولاها قطر ومصر، يبقى الغزيون في وضع يتسم بالعجز، إذ أن الإسمنت الذي يُستخدم في بناء منازلهم لا يدوم طويلاً أمام ضراوة الحروب والمواجهات. أنفقت ملايين الدولارات على مدار السنوات على المواجهات الماضية، وملايين أخرى ستصرف، وعلى الرغم من ذلك، لا تشهد غزة تطوّرًا يُذكر. القائمون على شؤونها لا يرون لها مستقبلًا خالٍ من ألسنة النار وأعمدة الدخان.

خسائر سيف القدس في 2021 قد قدرت بنصف مليار دولار، وتلقت التمويل الكافي من قطر ومصر. ومع ذلك، تقدمت جهود الإعمار بوتيرة بطيئة إلى أن أدركتها هذه الحرب الجديدة، وهي تتعدى بكثير تكلفة الحروب الست مجتمعة التي عاشتها غزة منذ تولت حماس الحكم. لم تنجح ملايين الدولارات القطرية ولا جهود مصر الدبلوماسية في توفير هدنة طويلة الأمد. ولم تشفع دروس وتجارب الماضي في تحفيز حماس لتكون أكثر وعياً ولتتحمل المسؤولية اللازمة تجاه شعبها الذي دفع تكاليف الحروب مرارًا وقدم التضحيات وترك وحيدا في مواجهة واقعه المر، وتركه وحيدًا أمام مأسي الحصار وتحت وطأة الأجندة الإيرانية.

وسط الحروب المتكررة والمستمرة والحصار المستمر من 16 عامًا، أصبح الوضع الإنساني في غزة يشكل تهديدًا خطيرًا، حيث يعاني حوالى 50% من الأطفال من الأمراض المرتبطة بالمياه. فشلت جميع الجهود السابقة في إخراج غزة من عزلتها وتصحيح المسار الخاطئ الذي أدى إلى تدهور الظروف المعيشية والصحية، واقتنع العديد ممن توفرت لهم الفرصة بأهمية الهجرة كوسيلة للهروب من جحيم المواجهات التي تفرض نفسها وتعيدهم إلى نقطة الصفر.

استهلكت عمليات إعادة الإعمار وتعويض الأسر موارد كان يُمكن استخدامها لتحسين الخدمات الصحية وشبكات الصرف الصحي وتعزيز كفاءة استهلاك الكهرباء في اليوم.

تأكد فشل المقاربة الإسرائيلية القائمة على أساس “الاقتصاد مقابل الأمان”، كما فشلت المقاربة القطرية والمصرية المبنية على تثبيت هدنة طويلة الأمد وإعادة إعمار غزة، بينما تواظب حماس على تبني أجندة إيرانية واستنساخ التجارب التي لم تكتفِ بالعبث بحاضر الغزيين بل تؤثر أيضًا على مستقبلهم. ولنكون واقعيين، لا يمكن تصور وضع مختلف لغزة ما لم تتزامن هذه الحرب مع تغيير سياسي كبير، يرتكز على رحيل حماس عن حكم غزة، وإعادة تحريك عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وإلا، فلن تتمكن إسرائيل من ضمان أمانها رغم جميع الموارد المادية والتكنولوجية التي تمتلكها، ولن يحظى الغزيون بالاستقرار أو إكمال إعادة الإعمار حتى تأتي حرب جديدة وتحول كل شيء إلى حطام.