للأسف، عندما تنتهي هذه الحرب في لبنان، لن نتمكن من سماع خطاب لزعيم حزب الله تدمع فيه عيناه ويقول: "لو كنت أعلم". أو ربما سيخرج علينا بإعلان النصر، مبررًا أنه فتح الجبهة بتكليف إلهي. فالنصر عند هؤلاء هو أن نتائج الحرب لم تسقطهم عن كراسيهم، لكنها هذه المرة مختلفة.
قيام حزب الله ببدء الحرب مع إسرائيل بحجة مساندة غزة قدم الفرصة الذهبية لإسرائيل، التي سارت مع سياسة الحزب في قواعد اشتباك بدائية استمرت سنة استنزفت فيها قوته وقواته، وجرى تصفية قادته، إلى أن حان وقت تصفية الحساب قبل الانشغال بجبهة إيران.
ماذا حقق الإسناد من جبهة لبنان؟ هل استفادت غزة؟ هل انخفضت خسائر الفلسطينيين؟ هل تراجع الإسرائيليون عن حربهم ضد حماس والجهاد؟ هل تمت حماية الفلسطينيين وحقن دمائهم؟ بالطبع لا شيء من هذا تحقق، بل تحول لبنان إلى غزة ثانية.
من خلال عناده وتصلبه وغروره وسوء تقديراته، جر حزب الله إسرائيل لكي ترد عليه بحرب وقصف تكبد من ورائهما الخسائر الهائلة على جميع المستويات. الحرب هذه المرة لن تكون مثل سابقاتها، فالجيش الإسرائيلي استفاد كثيرًا من تجربة القتال في غزة واستنبط الدروس والعبر من حرب 2006، وقد يطول بقاؤه في الأراضي اللبنانية ولا يخرج منها قبل توقيع معاهدة سلام ملزمة مع لبنان وبضمانات دولية.
يلاحظ بعد الضربات الإسرائيلية المتلاحقة التي استهدفت قوات حزب الله في لبنان وخارجه، وبشكل خاص بعد قتل حسن نصر الله وقتل المرشح لخلافته وكل قيادات الحزب، بدأت الأصوات اللبنانية ترتفع وتصرح بصورة علنية وجريئة ضد الحزب وسياساته التي أوصلت لبنان إلى هذا الحال. فالعديد من الشخصيات اللبنانية التي لم تكن تصرح بموقفها علانية، أخذت تعلن هذا الموقف وتهاجم أفعال حزب الله وتكشف أخطاءه وتفضح تغوله على الدولة اللبنانية.
لقد صادر حزب الله القرار الاستراتيجي للدولة اللبنانية منذ أن فرض سلاحه على لبنان، ولم يستطع أحد أن يجبره على نزع سلاحه وفق ما تنص عليه القرارات الدولية. غابت الدولة اللبنانية منذ سنوات طويلة في عهد ميشال عون وميشال سليمان وإميل لحود، بصورة أساسية تثير الريبة والشكوك. لكن الآن، أخذت الأصوات اللبنانية الوطنية تصدح بالمطالب العادلة للشعب اللبناني الذي ارتفع صوته بالحق ضد من كان يصادر هذا الحق.
باتت المعارضة اللبنانية الآن أكثر تماسكا وأشد تصميماً على الصمود في وجه الظروف التي تعيق قيامة لبنان ونهضته من جديد. وبعد بوادر انهيار حزب الله وهزيمته العسكرية، تسارعت الخطوات السياسية والحزبية في لبنان، وتقاطعت التصريحات الصادرة عن الزعماء السياسيين الساعين لإنجاز الاستحقاق الدستوري الأكبر وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وتوحيد المعارضة اليوم هو الهم الأكبر والهدف الأكثر جدية لإنقاذ لبنان، لأنه ما لم يتفق القادة اللبنانيون من أجل إنقاذ البلاد بعد الحرب وتفادي الحرب الأهلية، فلن يبقى لبنان قائمًا.
عندما كان الحزب مهيمناً، استطاع أن يفرض رؤساء الجمهورية الذين يخدمون أجندته. وكان شعار الحزب على الدوام "مرشحنا أو لا أحد". وفي هذه المرة حاول وظل مصمماً على هذه الطريقة، لكنه بعد أن أحس بهول الفاجعة التي تسبب بها للبلاد، أبلغ الحكومة أنه لم يعد يعارض انتخاب رئيس جديد للجمهورية. كما أنه نتيجة للظروف المستجدة، طلب من الحكومة أن تجري اتصالاتها مع المجتمع الدولي لأجل وقف إطلاق النار وفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، مع أن الحزب لم يجرؤ على إعلان الأمر بنفسه.
لقد أدرك الحزب ومعه اللبنانيون أي ورطة وقع فيها عندما تبع التحريض الإيراني والمغامرة الصبيانية فيما سمي بجبهة إسناد غزة، التي كانت عواقبها أكبر من كل احتمال. ولا أحد يمكنه التكهن بما ستؤول إليه الأحداث في لبنان. لكن ما يبدو من ظاهر الأمور أن لبنان يسير نحو انقسام طائفي شديد واستقطاب حزبي لا تُعرف نتائجه.
لقد جرَّ حزب الله لبنان إلى حرب في غير أوانها ستؤدي إلى خراب يصعب إصلاحه. والخشية الكبرى الآن هي أن حزب الله، بعد أن يستشعر هزيمته ودماره، قد يجر البلاد إلى حرب أهلية. هكذا فعل بعد حرب تموز (يوليو) 2006، وإن لم تقع الحرب الأهلية وقتها إلا أنها كادت، عندما نشر الحزب ميليشياته في شوارع بيروت في السابع من أيار (مايو) 2008 وأدت العملية إلى قتل العشرات من اللبنانيين. أما هذه المرة، فإذا ما اندلعت حرب أهلية، فلن يكون فيها غالب ومغلوب، لأنه بعدها لن يكون لبنان الذي نعرفه موجوداً.
إقرأ أيضاً: إلى أين يأخذك حزب الله يا لبنان!
مقاومة إسرائيل التي يدعيها حزب الله ودفاعه عن الفلسطينيين كما يقول، هي مجرد غطاء وهمي لأهداف حقيقية مخفية يسعى إليها الحزب، ولمصلحة إيران. إذ إنه يعمل وفق أجندة إيران ولا يخفي ذلك. ففي وثيقته التأسيسية يؤكد الحزب أنه حزب عقائدي طائفي يسعى لتحويل لبنان إلى جمهورية إسلامية تعيش في حضن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
نجح الحزب في تحقيق بداية أحلامه في السيطرة على مفاصل الدولة اللبنانية وتعطيل مسيرتها، وكان دولة بذاته داخل الدولة اللبنانية. كانت إيران تدخره ليدافع عنها في حال تعرضها لحرب مباشرة من إسرائيل.
إقرأ أيضاً: أي غزة بعد الحرب؟
منذ وصول الخميني إلى السلطة في طهران وإقامة الجمهورية الإسلامية عام تسعة وسبعين، لم تكن علاقة إيران بالجوار العربي علاقة مستقرة أو جيرة طبيعية، بل تعاملت إيران مع العرب بفوقية ونوايا الهيمنة والغلبة. ومنذ ذلك الوقت، تنتهز إيران الفرص لتخلق لنفسها دورًا لتبدو مساندة ومؤازرة للشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، ليكون مدخلها من أجل ترسيخ نفوذها في المنطقة.
لتحقيق أهدافها، استخدمت طهران الأطراف والأعوان، مثل ميليشيات حماس والجهاد وحزب الله وغيرهم من أمثالهم في العراق واليمن وسوريا، ليدافعوا عنها ويردوا بدلاً منها على الضربات الإسرائيلية التي استهدفتها، لأنها تدرك عدم قدرتها على مواجهة إسرائيل في كل مرة. ولهذا السبب فهي تخوض معاركها عبر وكلائها، فخسائرهم لا تقلقها أبدًا.
إقرأ أيضاً: ويل للجاهلين!
كان حزب الله في لبنان هو الاستثمار الإيراني الأكبر والأغلى ثمناً والأكثر كلفة. وكانت إيران تدخره لليوم المعلوم. لكن على ما يبدو تضاربت التيارات وتقاطعت المصالح، وتسرع حزب الله في الاشتباك مع إسرائيل لمساندة غزة، وبظنه أن الأمر سينتهي بسرعة، فوقع في فخ الاستنزاف الذي أراد أن يوقع فيه إسرائيل. وهذا أمر قد يكون أغضب إيران، ومن هنا تسارع قدوم القادة الإيرانيين إلى لبنان للاطلاع على التفاصيل، وكان ذلك مقتلاً لهؤلاء القادة الذين سقطوا ضحايا مع قادة الحزب الذين استهدفتهم إسرائيل وتمت تصفيتهم.
في عام 2006 أثناء حرب تموز (يوليو)، بكى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة لما وقع لبلاده، واليوم نرى الدموع تتجمع في عيون رئيس الوزراء نجيب ميقاتي استعدادًا لسكبها على ما يحدث لبلاده نتيجة هذه الحرب غير المتكافئة التي قاد حزب الله لبنان إليها على غير هدى ومن دون حكمة ولا رأي مستنير.
التعليقات