الشعب الذي يسلك في الجاهلية احتفل بعملية السائق الذي قتل ثلاثة إسرائيليين في ساحة تفريغ البضائع على الجانب الآخر من الحدود مع الأردن. وزعوا الحلوى وأطلقوا الألعاب النارية وهتفوا باسم السائق وعشيرته، دون تمحيص لحقيقة هذا العمل أو ما سيجره لاحقاً.

كانت احتفالات الجماهير العربية بعملية السائق في أغلبها في المناطق الشعبية والفقيرة، حيث ينتشر الجهل والعوز والازدحام والتدين. ومن المؤسف أنَّ بعض المعلقين السياسيين، ومنهم وزراء سابقون، احتفوا أيضاً بهذه العملية وكان هدفهم تسجيل موقف وكسب التعاطف الشعبي.

تلقف الإسلام السياسي العملية بسرعة، وتبنتها حماس وبعض القنوات الفضائية العربية الباحثة عن شعبية رخيصة. فجأة أصبحت عملية قتل بدون أي إطار سياسي عملاً بطولياً يعيد الكرامة ويعبر عن مشاعر الملايين. أحدهم كتب تعليقاً يخاطب فيه منفذ العملية: "لن ننسى بطولتك.. أعدت لنا بعضاً من الأمل"، لكنه نسي أن يضيف: "سأرسل أولادي لإكمال طريقك". آخر نشر صورة هوية السائق ووضع منشوراً بعنوان: "هذا هو الأردني الذي نحب"، لكنه للأسف لم يقل إنه يتمنى أن يكون أحد أولاده يمتلك الشجاعة للقيام بعمل مماثل.

فجأة أصبح الثوب البدوي الذي يرتديه السائق رمزاً للكرامة. من معركة الكرامة إلى معبر الكرامة... الأردنيون جزء من معركة المواجهة مع الكيان. هكذا احتفى البعض بهذه العملية وهنأوا بعضهم بعضاً عليها، فاقدي البصيرة تماماً عما يمكن أن تؤدي إليه فيما بعد.

ردود الفعل الشعبية تثير دائماً التساؤلات بشأن سبب كونها على هذا الشكل. يبدو أن الشعوب العربية تتوق دائماً إلى من ينوب عنها في أي عمل يتطلب ثمناً غالياً. بالطبع، عملية السائق أشفَت غليل الكثيرين، فاحتفلوا بها ووزعوا الحلوى وكانوا في منتهى السعادة. لكن ما السبب؟

ليس هذا الشعب محباً للدماء والقتل، لكنه احتفى بالعملية لأنها تمت على يد آخرين، وليس واحداً من أقربائهم أو أولادهم. نعم، تمت العملية وقام بها "آخرون"، والحمد لله، ألف مبروك للبطل! رغم ما قد تجره هذه العملية من نتائج سلبية على عائلته وأطفاله وبلده أيضاً. هنا يخطر على بالي القول إنه حتى في الهزائم الكبرى لا نشعر بها كشعب، بل نلقيها على الزعيم ونعتبره هو المهزوم، ونكمل يومنا كالمعتاد.

إقرأ أيضاً: إلى أين يأخذك حزب الله يا لبنان!

في الأدب الكلاسيكي، خصوصاً في المسرح الإغريقي، هناك مفهوم "التطهير" أو "التنفيس"، حيث يتماهى المشاهد مع الحدث ويُفرِغ كل الضغوطات النفسية التي يحملها عبر الأبطال الذين يؤدون أدوارهم. يعود المتفرج إلى بيته مرتاحاً. هكذا كان حال الناس بالأمس؛ فرغوا كل ما يحملونه من ضغوط ورغبات مكبوتة.

وإذا كان هذا الفعل "بطولياً" ويورِد الجنة، فلماذا لا يرسلون أولادهم للقيام بأعمال مشابهة؟

الآن، لندخل في بعض "التفاصيل المتوقعة"، بالرغم من أنني لا أملك أي معلومات دقيقة أو حقيقية عن نتائج التحقيق. أعتقد أن العملية لم تكن بطولية أو وطنية؛ السلاح المستخدم مجرد مسدس. ولو كانت بدافع وطني، لجلب السائق سلاحاً أوتوماتيكياً.

ثانياً، لو كانت العملية بدافع وطني، لكان قد استهدف حرس الحدود الإسرائيلي، وليس عمال الساحة الذين يساعدون في التحميل والتنزيل.

ثالثاً، يبدو أنَّ السائق كان يحمل ثأراً شخصياً مع عمال الساحة، وربما تسببت الإجراءات الأمنية المشددة في زيادة غضبه.

رابعاً، السائق لا ينتمي رسمياً لأي جماعة، رغم أنه، كغيره من أبناء منطقته، متشدد دينياً.

إقرأ أيضاً: أي غزة بعد الحرب؟

أمَّا الإعلام العربي ونجوم اليوتيوب الذين يتغنون بهذه العملية، فيخجلون من الاعتراف بأنَّ القتلى كانوا مدنيين، ويتفاخرون بأنهم من الجيش الإسرائيلي.
المحطات الفضائية التي احتفت بهذه العملية، هل ستكون قادرة على الاعتراف بأنها كانت ذات دوافع شخصية إذا أثبتت التحقيقات ذلك؟

إنَّ ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية والعربية يتحمل وزره ومسؤوليته الإعلام التحريضي، الذي لا يهتم إلا بكسب الشعبية والمشاهدات على حساب الحقيقة.