هذه الحرب في غزة ليست وليدة الصدفة، وليست بسبب عدوان إسرائيلي بقصد قتل الفلسطينيين، بل كانت حرباً نجمت عن عملية إرهابية قامت بها كتائب القسام التابعة لحركة حماس.
بعد الترحم على الضحايا من جانبي الصراع، يمكن القول إنَّ ما يقوم به الجيش الإسرائيلي من عمليات حربية شديدة القسوة لا يحظى بدعم كامل من الشعب الإسرائيلي، وان كان هذا الشعب يؤيد قيام الجيش بتوجيه ضربة قوية لكتائب القسام وحركة حماس. كذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، فإنَّ ما قامت به كتائب القسام لا يحظى بموافقة الشعب الفلسطيني حتى بوجود بعض المؤشرات التي قد تدل على مثل تلك الموافقة، فإنها بالتأكيد مؤقتة إلى حين سقوط الحركة وزوالها وبعدها يمكن التعرف على حقيقة الموقف الشعبي الفلسطيني. تماماً مثلما كان الحال بالنسبة إلى موقف الشعب العراقي من صدام حسين أو الشعب الليبي من معمر القذافي أو اليمني من علي عبدالله صالح والشعب السوري من بشار الأسد. في الوقت الذي تسقط فيه قبضة الحكم يظهر الموقف الحقيقي للشعب.
على أي حال، ما وقع قد وقع ولا بد أن تنتهي الحرب، لكن السؤال الجوهري الذي يبحث عن جواب منذ اليوم الأول لهذه الحرب هو ماذا بعد؟ ماذا في اليوم التالي لسكوت المدافع وصمت الرصاص؟
دعونا أولاً نستبعد الحلول أو المقترحات غير العملية التي قد يتوقعها البعض. أولاً لا عودة لحكم غزة من قبل حركة حماس، وكذلك لا عودة إلى حكم غزة من قبل السلطة الفلسطينية التي ثبت فشلها وفسادها. ثانياً لا مجال لوجود سلطة دولية تابعة للأمم المتحدة وقوات طوارئ دولية تحكم غزة، فهذه الطريقة غير مجدية أبداً في الشرق الأوسط. ثالثاً، إيجاد سلطة حكم بمشاركة محلية وعربية من مصر والأردن والسعودية مثلاً أمر غير عملي على الإطلاق، لأنه سيكون ضعيفاً وغير حازم، وينتهي به الأمر سريعاً مثلما كان حال قوات الردع العربية في لبنان عام 1976، الذي انتهى إلى احتلال سوري دمر لبنان ومستقبله. ورابعاً، من غير المجدي أبداً إجراء انتخابات ديمقراطية في القطاع وتنصيب جهة محلية تحكم، لأنَّ أهل القطاع غير قادرين على ذلك. وخامساً، فإنَّ ترك الأمور على ما هي عليه بوجود قوات احتلال إسرائيلي مباشرة مسيطرة على كل مفاصل الحياة في القطاع لن يكون نافعاً، وستتكرر مآسي سنوات الاحتلال في السبعينات والثمانينات.
ما هو الحل الأنسب؟
الحل الأنسب والأفضل والأكثر فائدة للشعب الفلسطيني عموماً والشعب الفلسطيني في غزة وكذلك للمنطقة ولإسرائيل هو أن تقوم إسرائيل بإدارة القطاع عبر ما يمكن أن نسميه "الاحتلال الإيجابي"، يسيطر فيه الجيش الإسرائيلي على الشؤون الأمنية والعسكرية وحماية الحدود، ثم يقيم قوات شرطة مدنية من أهل القطاع لحفظ الأمن المحلي. ويكون هذا الاحتلال الإيجابي أشبه ما يكون بالانتداب من الفئة (أ) الذي يهدف إلى تهيئة البلاد لحكم ديمقراطي مسالم وإنشاء كيان منزوع السلاح يعيش بسلام مع جيرانه ويخدم شعبه ويحسن معيشته ونوعية حياته.
لأجل تحقيق ذلك، على إسرائيل أن تطلب بإقامة صندوق لإعمار قطاع غزة لا يقل رأسماله عن مئة وخمسين مليار دولار في الحد الأدنى، تموله الأمم المتحدة من خلال وكالة الغوث إلى جانب إسرائيل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأخرى وكذلك الدول العربية التي تريد ذلك.
وعلى سلطة الاحتلال الإيجابي هذه أن تعمل على إقامة هيئات بلدية، سواء منتخبة أو بالتعيين، تعمل على تقديم الخدمات البلدية للمواطنين، ويشكل رؤساء هذه الهيئات مع رؤساء الهيئات الاجتماعية والأكاديمية الأخرى ما يشبه المجلس الاستشاري الذي يمكنه أن يضع قوانين مؤقتة لإدارة القطاع.
من المهم في هذه الفترة تعديل المناهج الدراسية لتوفير تعليم عصري بعيد عن التعصب والتطرف، يدعو إلى السلام وحسن الجوار، وكذلك توفير نشاطات اجتماعية وشبابية تعيد الحياة إلى القطاع وتفسح المجال لحرية التعبير بشكل حضاري.
صندوق الإعمار هذا لن يكون فقط لإعمار العقارات وبناء البيوت، بل سيكون أيضاً لتمويل خطط تنموية خمسية تسهم في إقامة زراعة عصرية وصناعات حديثة خفيفة (غذائية وما شابه ذلك) وسياحة ناجحة وبناء مطار وميناء وطرق ومستشفيات ومدارس ونقل عام. ويصاحب ذلك تشغيل أعداد من شباب غزة الراغبين في العمل في إسرائيل ليكونوا مصدر تمويل إضافي لأهلهم وعائلاتهم.
هل يمكن أن تنجح مثل هذه الأفكار في إعادة السلام إلى قطاع غزة وتغييره بهذا الشكل الذي يبدو حلماً بعيد المنال وخيالاً هستيرياً يصعب تجسيده؟
جوابي على هذا السؤال هو نعم إذا توفرت الشروط والأدوات.
بطبيعة الحال الموافقة الإسرائيلية هي الشرط الأول والأكثر ضرورة لكي تقوم إسرائيل بإقناع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي به، وبعد ذلك إقناع الدول العربية الصديقة لها، وهي دول ستوافق بالتأكيد لأنها لا تريد أن ترى قطاع غزة يعود إلى حماس ولا تريد أيضا أن ترى منظمة التحرير تعود إليه.
الشرط الثاني أو الظرف الثاني الذي سيجعل من هذه الفكرة أمراً ممكناً هو اتفاق متبادل بين أهل غزة وإسرائيل يتضمن أيضاً اعتذاراً عما جرى من أعمال قتالية. سيقول البعض لماذا يعتذر أهل غزة وهم كانوا ضحية؟ نعم كانوا ضحية حماس وكذلك الإسرائيليون كانوا ضحية مشاعر انتقامية أسفرت عن إسالة دماء كثيرة. الاعتذار المتبادل سيزيل العداء المتبادل.
بعد هذا يمكن لإسرائيل أن تحصل على موافقة دولية على المشروع ويكون بيان انتدابها أو احتلالها الإيجابي في قطاع غزة لمدة قد تصل إلى خمس عشرة سنة وربما عشرين سنة. في هذه الحالة سيصبح الشرق الأوسط بالفعل شرقا جديدا مسالما منتجا وآمنا ومثالا سيرغب كثيرون الاقتداء به.
التعليقات