لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تعيش من دون عدو رئيسي وأعداء متفرقين، وذلك تنفيذاً لسياسة مدروسة بعمق تخدم أهدافاً داخلية يتطلب فهمها التبحر في التاريخ الأميركي الحديث. تحاول الولايات المتحدة أن تجد عدواً دائماً ورئيسياً لها، كي تردع به الداخل الأميركي وتسيطر على مجاميع البشر الذين يعيشون بداخلها. ولكون أميركا دولة مهاجرين، يقطنها نحو 400 مليون إنسان من أعراق وألوان وأديان مختلفة، إذ هؤلاء خلاصة هجرات متتالية جماعية أو فردية قصدت تلك البلاد من أجل الحلم الأميركي، نجح بعضها وفشل بعضها الآخر فسلك سبل الإجرام، ليتشكل خليط اجتماعي هجين لا تربطه صلات ناظمة إلا سلطة القانون. لهذا، كان لا بد من أن تعيش هذه القوة العظمى تحت تهديد خارجي دائم تُشعر به مواطنيها في الداخل من أجل أن يتوحدوا أمام عدو يتربص بهم. ومتى غاب العدو الحقيقي اخترعت لنفسها عدواً.
خرجت أميركا من الحرب العالمية الثانية منتصرة، وقد انخرطت في الحرب على أراضي دول بعيدة عنها، فانتهت الحرب بدمار شامل للبنية التحتية في الدول المشاركة بالحرب، فيما خرجت هي منتصرة وببنية تحتية سليمة، فتسلمت زمام العالم، وعندذاك استشعرت الخطر الداخلي، إذ بالرغم من تحييد السكان الأصليين بالإبادة الجماعية وإقامة المعتزلات، برز خاطر ماثل قوامه كتلة بشرية غير متجانسة، فبرزت ضرورة اختراع عدو خارجي مهدد، فكان الاتحاد السوفيتي كقوة مهيمنة تريد البطش بالشعب الأميركي، ما قاد إلى ما سمي بالحرب الباردة بين الشرق والغرب. وأرادت الولايات المتحدة أن تصنع أعداء تقليديين على حواف العدو الكبير، مثل الصين الشيوعية وكوبا. وللسيطرة على مقدرات الشعوب ونفط العالم، دخلت حرب فيتنام ثم حرب أفغانسان الأولى عندما غزا الاتحاد السوفيتي ذاك البلد وأسقط ظاهر شاه، فخلقت المجاهدين الأفغان والعرب وسلحتهم، ومنهم تفرع تنظيم القاعدة لاحقاً، ثم طبقت سياسة الاحتواء المزدوج للسنة والشيعة، فكانت الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج التي قادت إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي كان مدخلاً لتدمير العراق وسقوط بغداد، وصناعة الربيع العربي، وتدمير الدول العربية واحدة تلو الأخرى، ثم صناعة داعش، ولا ننسى حروب الخليج المختلفة، حتى وصلنا إلى اللحظة التي قالت بها أميركا "لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها"، بمعنى أنه لو لم تكن حماس وداعش والقاعدة موجودة لأوجدناها، لرغبة أميركية دائمة في إشغال الرأي العام الداخلي بعدو خارجي.
وعندما لا تشغل أميركا ذاك الرأي العام بمهدد من الخارج، تكثر عمليات إطلاق النار الجماعي في الحفلات الراقصة والمدارس والجامعات والأماكن العامة، وتكثر الحوادث العنصرية بين السود والبيض، وتزداد محاولات قتل السود على يد الشرطة، وينعزل اللاتينيون في تجمعات سكانية فقيرة كتجمعات السود، وتسيطر الطغمة الحاكمة من التيار المسيحي المتصهين، ويزداد نفوذ اللوبيات اليهودية التي تستطيع من خلال المال والإعلام أن تسقط المرشحين الذين لا يسايرون مصالح اليهود وإسرائيل في العالم، وتقود حملات الفوز بالرئاسة الأميركية.
ما لم نفهم العقلية الأميركية، وكيف تعمل وكيف تخطط، لا يمكن لنا أن نفهم لماذا لم تحل قضية فلسطين إلى اليوم، ولماذا يزداد الجفاء بين الغرب والشرق العربي، وبين الإسلام المتسامح والغرب الذي ابتكر الإسلاموفوبيا.
التعليقات