كان هناك "منطقةٌ" تَسكُنها مجموعة من المواطنين العبيد، تُسمّى "منطقة العبيد"، وهؤلاء كانوا يَعملون بِجدٍّ وتفانٍ ونُكرانٍ للذّات. أصبحت الحقول والمزارع، بفضلهم، تُعطي إنتاجاً وافراً، غِلالاً جدَّ هائلة لا تُعدُّ ولا تُحصى، بالإضافة إلى ثروات هائلة من المعادن التي يحتضنها باطن أرضها، حيث تُستخرج منها جميعُ أنواع المعادن من ذهب وفضّة ونُحاس وحديد وغيرِها. وتتوفَّر "منطقة العبيد" على بحرٍ زاخِر بجميع أنواع الأسماك والرَّخَوِيات الباهظة الثمن، وهذه الخيرات العميمة تُباع خارج المنطقة يتمتّع بها سكان ما يُدعى "المناطق المُتحكِّمة" في "منطقة العبيد"، حيث توجد ثُلَّة من النُّبَلاء التي تستفيد من كل هذه الثروات والخيرات دون أن ينالَ منها العبيد، وهم أصحاب الأرض، شيئاً، فكل ما فوق الأرض وما تحت الأرض مِلْكٌ لثُلَّة النُّبلاء، ويُساق العبيدُ بالسَّياط ويُحكَمون بقُوَّة الحديد والنار، والويْلُ كُلُّ الويْلِ لِمَنْ تُسَوِّل له نفسه العِصيانَ، عصيانَ أوامِرِ النُّبَلاء، إذ مصيره السجن السحيق بدون هَوادَة من أجل إسكاتِ صوتِه وجعلِه عِبرةً للآخرين، وكُلُّ مَن سَنحتْ له فُرصةُ الهِجرة من شباب "منطقة العبيد" يُغادر مسقط رأسه مُرغماً إلى "المناطق المُتحكِّمة" بعيداً عن أرض آبائِه وأجداده من أجل العيش في حرية وكرامة وعدالة اجتماعية لِكَوْن تلك "المناطق المُتحكِّمة" تحكُمها مَجموعة من الرجال النُّزهاء الثُّقاة الذين اخْتارَهُم أهل تلك "المناطق المُتحكِّمة" بِحُرية لِتدْبير شؤونِهم وتولّي أمورهم.

رغم أنَّ زُمرةَ النُّبلاء تُحكِمُ قبضتَها على عبيد القرية، إلّا أنّها لا تَملك قراراً مُستقلِّاً، فَأعيانُ "المناطق المُتحكّمة" همُ الذين يَفرضون عليها إملاءاتهم مُقابلَ الحفاظ لهم على مصالحهم في "منطقة العبيد"، وهؤلاء الأعيان هم سبب بَقاء هذه الشرذمة مُتربِّعةً على عروشَ التَّسلُّطِ والتًّحكُّم.

لا تزال منطقة العبيد إلى اليوْم، تَرثي حالَها الضّنْك ولا تزال ساكِنتُها تئِنُّ تحت وَطْأة العُبوديّة والاستغلال. "حمّو"، أحد ساكنة القرية، يقطُن أحد أدغالها المُقفِرة في بيت حالُه هو دليل الفقر المُدقِع والتهميش والحِرمان التي تَرزَحُ تحتَه شريحة واسعة من أناسٍ حُرِموا حتّى من إنسانيَّتهم كباقي أحرار المعمورة، بيتٌ على شكل كوخ مبني بالطّين (التابوت) مُسقَّف بالخشب والقَصَب تعشش فيه الفئرانُ مِن جميع الأعمار والحشراتُ المُختلفة الأشكال والألوان، تظهَر على صفحات جُدرانه شُقوق وغيرانٌ يُرى ظاهِرُ البيت من خلالها، سَكَنٌ جِدُّ هشٍّ يبعث الخوف في النفوس لِكوْنه مُتصدِّع الأركان ومعرض للسقوط في أيّة لحظة، لا ماءَ في البيت ولا إنارةَ، اللَّهُمَّ إلا بعض الشموع وقِنديلاً قديماً يشهد لِعصور غابرةٍ في أعماق التاريخ، ظلّ "حمّو" في هذه الرُّقعة من الأرض (البلْدة) يرعى بِضْعةَ أغنام، يبيع عنزةُ أو خروفاً لِتَزويد أسرتِه بما تَسُدُّ به رَمَقَها.

عندما كان "حمّو"، وهو من العبيد، في يوم من الأيام، بالقرب من تَلَّة قريبة من البيت يسوق غنمه تُجاهَ مكان مُحادٍ لِجَبلٍ شاهِقٍ بحثاً عن الكَلاءِ، عَثرَ وانزَلَقت قَدَمُه فسقط أرضاً أُصيبَ على إثر ذلك بَكُسور في قدمه، أخذ يَصرُخ ويصيح بأعلى صوته، سمِع أحد الساكنة صُراخَه فاتَّجَهَ نحوه فساعده للوصول إلى بيته، يتألم "حمّو" وتتألم معه زوجتُه "فاضمة" وأبناؤُه الأربعة الذين أُصيبوا بالذهول والْهوْل والفَزَع جرّاءَ هذا الحادِث المُروِّع المُفاجئ، أخذت الزوجة "فاضمة" المسكينةُ تُضمِّد قدَمَ زوجها بِقُماش علًّها تُخفِّف من أَلَمِه في غياب أي مَشفىً في "البلْدة" ولا بالبَلْدات المُجاورة، باتَ الرجل يتألم ويزداد ألمُهُ كلَّما حرًّك قدمَه للاتّكاء على جنبه الآخر. وفي الصباح الباكر فكّر في قًصْد ”بلْدة” بها شِبْهُ مُستوصَف وتبعُد عن سُكْناه بِعشَرات الأميال، ركِبَ "حمّو"، بمساعدة الزوجة، على متْن حماره، وسيلة نقله الوحيدة، وانْطلق وزوجتُه من خَلْفِه قاصِديْن تلك البلدة، سَلك الزوجان طريقاً كلها أوْعار، صخور ورمال شِعاب ووِديان وأَطيان، مَسلَك يستحيل أن تمُرَّ منه سيارة أو شاحنة، فبَلْداتُ هذه المنطقة المُقفِرة معزولة عُزْلة تامًّةً عن العالم الخارجيِّ.

وَصَل الزوجان إلى تلك البلدة، سألا عن المستوصف المقصود فقيل لهما بأنه مُغلَق منذ زمان ولم يكتمل بناؤه بعدُ، ولن يَكتملَ، تَرَكا حمارَهما في البلْدة لدى رجل يعمل في ضيعةٍ لأحد "النُّبلاء"، وشدَّا الرِّحالَ إلى بلدة ثانية أكبر من الأولى، على مَتْن شاحنة للبضائع، قيل لهما بِأنّ بها مستشفىً يقصده المرضى من جميع ضواحيها، وصل الزوجان إلي البلدة، سألا أحدَ المارَّة عن المستشفى فقام بِتوجيههما نحوَه، دخلا إلى بهوٍ مُهتَرئٍ تَرثى جُدرانُه ونوافذُه وسقفُه حالَها مِمّا أصابها من إهمال ولا مُبالاة، دَلَفَا قاعةَ قِسمِ المُستعجلات فَوَجَداها غاصَّةً بالمرضى وقد فوجِئا عندما قال لهما أحد المرضي بأنه منذ خمسة أيام وهو يتنقَّل بين البيت والمستشفى ولا يزال ينتظر دوْرَه لاستشارةٍ طِبِّيَّة مُستَعجَلةٍ فأخذ "حمّو" المسكين يُقلِّبُ كفًّيْه ويتأسف لِحالِه.

خرج الزوجان من المُستشفى وهم يُفكِّرون في الأكل والشرب والمَبيت في "بلدة" هما فيها غريبان، وليس لَديْهما أموالٌ لِتلبية حاجياتِهم، وفي طريقِهما إلى المَجهول، بادَرَت إلى ذهنَيْهما فكرةَ التسوُّل من أجل الحصول على دُريهِماتٍ علّ ذلك يُخفِّف من قساوَة الوضع، شرعا في سؤال المارّة، فهناك من الناس المارّين مَن يُشفِق لِحالهما فيَمدّهم بشيء من النُّقود ومنهم من يمُرّ غير آبِهٍ بهما، يَبيتان في العَراء ويقتاتان بشيء من الطعام، خُبزٌ وماءٌ، ذاك هو الفطور الغذاء والعشاء. وتمُرّ أيّام قاسية على الزوجيْن إلى أنْ وصَل موعِد زيارة الطبيب. قصدا المُستشفى وكلاهُما أمَلٌ في الشّفاء، إثر الدّخول طلَب أحدُ العاملين بالمستشفى من "حمّو" أداء الواجب قبْل السماح له برؤية الطبيب، أخرجت زوجتُه من جيْبِها صُرَّةً بها بعض النّقود، وأخذت تَعُدّها، فوجدت واجِب التطبيب كامِلاً غير منقوص، فحمدت الله، فدخل الزوجُ غُرفَة الطبيب، وبعدَ فَحصِهِ، قال له بأنّ كُسوره تستدعي المُكوث في المشفى لأيام عديدة، تُجرى له عملية جراحيّة لترميم العظام، هذا عن "حمّو" وماذا عن "فاضمة" أين تقضي الليالي في انتظار شفاء الزوْج؟ انهمرت دموعها من شدّة ما حلّ بها، لمَحتها إحدى الخادمات واتّجهت نحوها، قصّت عليها المرأة حكايتها، أشفق لها قلبُها، فخصّصَت لها غرفةً صغيرة للمَبيت، تهلّل وجه "فاضمة" واسترجعت أنفاسَها واطمأنّ قلبُها. وبعد مرور بضعة أيام بدأ الرجل يتماثَلُ للشفاء.

شُفي "حمو" من مرضه، ذلك المرض الذي عانى منه معاناتٍ لا تُوصف، كما سلف ذكرها، ولكنّ مُعاناتِه لا تَنتَهي سَيُعاني، بعد فترة من الزمن، نوعاً آخر من المُعضلات، عند توجُّهه الى إحدى المدارس النائية، من أجل تسجيل ابنه في المستوى الأول من التعليم الابتدائي.

لقد حُرِمَ "حمّو" من دخول المدرسة في صِغَره ولم يتلقَّ أي تعليم يُذكر، فهو أمّيٌّ ضِمْن الكثير من الأميين في البلدة، ولِتعويض ما حُرِمَ منه، فكَّر في تسجيل ابنه الأكبر في إحدى المدارس النائية، التي يقصدها التلاميذ من كل فجٍّ وصوْبٍ سيراً على الأقدام ولِمسافة طويلة.

استيقظ "حمو" باكراً وأًيْقظ ابنَه وتناولا فطورهما، خبزاً وشاي، وقامت فاضمة بإلباس ابنها أحسن ما لديْه من ثياب ليظهر بمَظهرٍ جميل أمام زُملائه وأقرانه في المدرسة.

امتطى دابته بصُحبة الابن مُتوجِّهيْن نحو المدرسة التي يَفصِلهما عن البلْدة بضعة كيلومترات، ولما وصلا، عقَل حماره بالقرب من بِناية المؤسسة ثُمّ دَلَفا بِنايةَ لا تَقل رَداءةً عن بيته، فالمؤسسة التعليميّة عبارة عن فَصليْن دراسييْن تَعلو جُدرانُهما شُقوق عميقة يبدوان وكأنهما اصْطبْلان لِلبهائم لا صِلةَ لهما بالتربية والتعليم وتنشِئة أجيال المستقبل، ركائز الأمم التي تريد النهوض ببلدانها والتي تُولي مواردَها البشريّة كلَّ الاهتمام والتي تبني كل آمالها وأمانيها عليها مُعتَبِرةً أن كلّ طفل مُتعلِّم هو لَبِنة في جدران تقدُّمها ورُقيِّها ونهْضَتها.

أوى الأب فصلا دراسيّاً فوجد بِداخِلِه رجلاً جالساً على كرسي رثّ بالٍ قديم قِدم التاريخ يشهد، ولَرُبَّما لعهد ما قبل التاريخ، إنه مدير تلك المدرسة، أَلْقى "حمو" نظرةً على هيْئة السيد المدير، تلك الهيئة التي لا تَلِق بِرجل التعليم سيد الأمّة ورمز نهضتها ونموِّها وازدهارها. انْدهش الرجُل، وقال في نفسه: هيْئة هذا الشخص تُشبه هيئة رُعاة البلدة، بِدلةٌ قديمةٌ مُتجاوزة، سروالٌ تَظهَر عليه ضَرَبات الزمن وقَميصٌ مُمزَّقُ الكمَّين وحٍذاء يبدو أنه من أحذية السوق السوداء (الخُردة). رغم بَساطَة وسَذاجَة "حمو"، إلّا أن رَجاحة عقلة أوْحت إليه بسُؤال غريب عجيب: لماذا يظهر المُعلِّم المُدرِّس بهذا المَظهَر المُرثي؟ وهو السّاهِر على تعليم وتربية الأجيال وهو قُدوتها في حُسن الهِنْدام وحُسن الأخلاق والسلوك. غابَ عن "حمو" أن هذا الرجل من "عبيد المنطقة" يتلَقّى أُجْرةً جدّ هزيلة لا تَكفيه حتّى لِتلبية الحاجيات الضروريّة لِعيالِه، ورغمَ ذلك فهو يعمل بإخلاص وتَفانٍ ونُكرانّ للذّات من أجل الرفع من مستوى أطفال” العبيد“ التعليمي والتربوي. لم ُيدرك هذا" العبْد" أن "زمرة النّبَلاء" أرادوا التقليل من شأن مُعلِّمي الأجيال ومُربّيها والتنقيص من شأْنِهم عَمْداً وقَصداً… لم ُيدرك "حمو" أن "زمرة النُّبلاء" أرادوا زعزعة أركان المنظومة التعليمية وتحطيمها ليبقى ”العبيد” قُطعاناً من الأغنام يسوقونها أنّا شاءوا وكيْفما شاءوا من أجل ضمان استمرار سيطرتهم على خيرات وثروات "منطقة العبيد". لم يُدرك "حمّو" أن هؤلاء الطُّغاة لا يسعوْن إلى مصلحة "العبيد" وإنما يسعوْن وَراءَ مصالحهم الذاتية ولا يَهمُّهم الّا نهْب ثروات "منطقة العبيد" والعيش في البذخ والرفاهية وتخزين الأموال في البنوك بنوك خارج "المنطقة" خوفاً من احتِمال قيام ثورة وانتفاضَة "العبيد" في مُستقبَل الأيام ضدّ تحكّمهم وتسلُّطهم وانتهاكهم للأعراض وحُرمات "العبيد" المغلوبين على أمرهم.

يُدرِك "النبلاء" كلّ الإدراك أن المدرسة هي أساس بناء الأمم وأنها نِبراس المجتمع ومصباحه فَعَمدوا إلى إخماد هذا النبراس حتى لا تستفيق "منطقة العبيد" وتلجأ الى زلزلة عروشهم وتحطيم كراسيهم المُهترئة التي لم تُبْنَ على الحقّ ولا على الأُسُس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي كان من المفروض انتهاجها في "القرية" التي تزخَر بمُختلف أنواع الثروات والخيرات.

ولكن على ما يبدو أن النصر سيكون في نهاية الأمر للمستضعفين الذين غُلبوا على أمرهم. سَينهزم الطغاة، لا محالة، والتاريخ هو الذي يقول بأن النصر دائما حلِف طالِبي الحقِّ.

إنّ التجبُّر مآلُه إلى الزوال طال الزمن أم قصُر. ولكن، على مواطني "منطقة العبيد" مُحاوَلة نفْض غُبار العبوديّة والاسترقاق الذي دام لِحِقَبٍ طويلة، وذلك من خلال انتفاضَةٍ شامِلة ضدّ أعداء المنطقة وإجبارهم على التخلّي عن كراسيهم ومُحاسبَتِهم على الثروات والأموال التي نهَبوها طيلة فترة استِعبادهم لمُواطني المنطقة.