إذا كان التغيير السياسي في أيّ بلدٍ كان، الهدف منه هو فقط إزاحة الطاغية والجلوس في مكانه وإتمام مهامه ومحاكاة تصرفاته والتمتع بكل ما كان يتمتع به الجَبَّار السابق من المنافع على حساب عامة الناس، فهذا يعني الاتيان بجائعٍ للمال والسلطة ووضعه مكان المتخم حتى يبلغ مراقي تخمة الجائر الغابر بعد عقود، ما يعني تدمير البلد وإزهاق أرواح الملايين من أجل اِستبدال فاسد بفاسدٍ آخر.
وطالما كان الأمر كذلك، فلا فرق إذاً بين الدكتاتور والذي يود أن يكون مكانه، وأقرب مثال منظور على وحدة الممارسات بين السابق واللاحق، هو ما يجري في العراق هذه الأيام، إذ أن النظام البعثي البائد في العراق، وعلى مراحل طويلة، جلب الناس من شتى مناطق العراق لتعريب مدينة كركوك من أجل تغيير هويتها الديموغرافية لتناسب المزاج القومي للسلطة آنذاك، وكذلك الأمر فالمحسوبين على إيران اليوم في النظام الحالي بعد أن فازت القوائم الكردية في الانتخابات الأخيرة في كركوك يقلدون النظام البائد في طرد الكرد من منازلهم لإسكان الوافدين في بيوتهم من أجل إتمام ما قام به البعث البائد! حيث اقتحمت قوة كبيرة من الفرقة 11 للجيش العراقي حي نوروز وسط مدينة كركوك في الرابع من الشهر الجاري، مطالبةً بإخلاء 122 منزلاً تعيش فيها 172 عائلة كردية، واستولت القوات العراقية على عدد من المنازل وتم ترقيم المنازل كلها لمساءلة ساكنيها لاحقاً، وفي هذا الصدد قال أحمد ستار من سكنة الحي لشبكة روداو الإخبارية "ليست المرة الأولى التي يقتحمون فيها الحي فمنذ أحداث 16 تشرين الأول (أكتوبر) المشؤومة، حاولوا كثيراً الوقوف ضدنا عبر القانون، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، لذا يعتزمون الآن إجبار المواطنين على ترك الحي بالقوة"، وذلك لأنهم حتى إبان احتلال الحشد الشعبي لكركوك ـ بموافقة الأميركان حينها وتواطؤ قادة من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني ـ لم يفلحوا في إجبار السكان على الخروج من المدينة للسيطرة على بيوتهم وممتلكاتهم لكي يتمموا ما قام به وبدأه نظام صدام حسين منذ عقود!
إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟
وحيال مصير الحرية في العراق منذ ما بعد 2003 أي منذ سقوط نظام حزب البعث في العراق، يذكر إسماعيل سعد عضو المرصد العراقي لحقوق الإنسان، "عندما تخلصنا من نظام صدام حسين، كنا نعتقد أن مرحلة الانتهاكات والإخفاء القسري والمقابر الجماعية ستنتهي، ولكننا لم نكن نعلم بأنها ستتفاقم" ويضيف سعدو لموقع الجزيرة نت: "الجميع اشترك بانتهاك حقوق الإنسان، الجماعات الإرهابية، والجماعات المسلحة المؤيدة والتابعة للأحزاب، وكذلك السلطة، انتهاكات حقوق الإنسان عامل مشترك بين هؤلاء". بناءً عليه، فإن ما يجري من تجاوزات وانتهاكات متواصلة في العراق منذ عام 2003 يعطي الدرس للقاصي والداني بضرورة عدم الانخداع بمن يطالبون بالحرية ليل نهار ويتبجحون بنطقها في كل مناسبة، لأنَّ المجرم في السجن ينادي مع معتقلي الرأي بالحرية، والسارق ومنتهك حرمات الآخرين أيضاً ينادي مع المظلوم بالحرية عساه يوسع مدار اِنتهاكاته في زمن الفلتان، والفاسد ربما كان صوته أعلى من كل الأصوات المنادية بالحرية وذلك على أمل أن يستحوذ على ما لم يقدر عليه في زمن الكبت، لذا نقول إنه عندما يطالب بالحرية من لا يؤمن بها، ولا يعرف شيئاً عن أسسها وممارساتها، ولا علم له بفضاءاتها وتطبيقاتها في الغرب كمثال حي وملموس ومجرب، لن تكون تلك الحرية المزعومة بالنسبةِ إليه إلاَّ قارباً موقتاً للوصول إلى جزيرة الحكم ومن ثم ممارسة كامل الحرية في قمع الآخرين.
إقرأ أيضاً: شناعة المُندَلق
في الأخير، وبعيداً عن الميل لآلية إصدار الأحكام القطعية أو الحكم على النوايا في ذلك البلد أو غيره، إلاَّ أن الوقائع تشير إلى أن السلوك العدواني للكثير من المدّعين بأنهم خلصوا العراق من النظام السابق وجلبوا الحرية للعراق والعراقيين، تذكّر عشاق الحرية والخلاص من الظلم والطغيان في هذا الشرق المبتلى إلى جانب سلطات الجور بالثقافة الاستبدادية، بكابوس الحرية في رواية الكاتبة الكورية صن – مي هوانغ، وحيث أن بطلة الرواية أي الدجاجة "إبساك"، التي حلمت طويلاً بالخروج من القن لتنعم بفضاء الحرية، اكتشفت لاحقاً أنَّ الحياة في باحة الحظيرة أصعب بكثير مما كانت عليه في القن، فصحيح أنها فرت مِن القن ومن ظروف استغلالها مِن قبل صاحب المزرعة، ونجحت في الخلاص من القفص، ولكنها في فضاء الفلتان دفعت ثمن الحرية التي حلمت بها غالياً، حيث أنها عاشت كل منغصات ومخاطر فقدان الأمن والأمان، وفي الأخير قضى على حياتها ابن عرس.
التعليقات