لا ينبغي أن نهدر ما توصلنا إليه في معاركنا المتواصلة من أجل الحفاظ على هذا الوطن الذي تتهدده شرور جمة، بل يجب أن توضع الخطط، وتحدد البرامج، وتوثق التحالفات، وتضبط الأولويات من قبل النخب التي تمتلك القدرة على التفكير في قضايا هذا الشعب الذي تصرعه الشدائد، وتضعضعه النوائب، وفي أمر دولته التي تحيط بها المخاطر من كل حدب وصوب.
فقد السودان ثلث مساحته بسبب خطل الساسة، وما زال مهيأً لأن يفقد المزيد لغياب العقد الناظم للدولة، ولعدم وجود الدراسات الوافية التي تعمقت في دراسة هذا المجتمع لمعرفة أسباب خضوعه للقبلية أكثر من التزامه بفكرة الوطن الواحد. فالدراسات في هذا الصدد ما زالت محدودة ودون المستوى المرجو، وبالرغم من أنَّ في ثقافتنا موروثاً استطاع أن يبني إطاراً جامعاً، التف حوله السود باختلاف شرائحهم ومكوناتهم قبل أكثر من قرن من الزمان، إلا أنَّ هذا الموروث نفسه سيطرت عليه موجات متتالية من العصبية والتفضيل، الأمر الذي أفقده المقاومة والصمود عند أول حملة مدججة جاءت من خارج الحدود.
الثورة المهدية
أدت الثورة المهدية إلى مقاربة حقيقية فعلاً بين أغلب قبائل السودان، وصاغت قيماً أخلاقية وإنسانية لم يكن يعرفها الناس في ذلك العهد، كما أنها حققت نوعاً من التوازن بين البنى الاجتماعية التي لم يتغلغل التضامن قط بين نسيجها، ولكن ما أن مات القائد محمد أحمد المهدي رحمه الله حتى أوجد خليفته عبد الله التعايشي تياراً رافضاً لسياساته التي انتهجها من قبل أولاد النيل أو أولاد البحر، وهم أبناء القبائل التي تقطن على طول ممر النيل في الشمال.
كانت فظاظة الخليفة عبد الله التعايشي أمراً لا يمكن التغاضي عنه، وهو بهذا السلوك المجحف لم يحقق المصالح الكبرى التي كان يشرئب لتحقيقها الإمام المهدي رحمه الله، فقد كان المهدي يتعامل مع كل الطوائف التي بايعته على مجالدة المستعمر وطرده على مبدأ المساواة ومن دون تمييز، ومن نافلة القول أن نشير إلى أنَّ الإمام المهدي قد تزوج من معظم القبائل السودانية ولم يستنكف أن يتزوج من بعض القبائل التي يعتبرها بعض السودانيين أنها لا تحظى بالنباهة والشرف، واستمرت هذه العادة الطيبة في أحفاده، وينبغي أن نشير هنا إلى أن الراحل الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق والذي توفي قبل فترة رحمه الله تعود أصوله إلى عدة قبائل بعضها عربي والآخر أفريقي محض.
ولا شك عندنا في أنَّ تعامل الخليفة التعايشي رحمه الله مع أولاد البحر هو الذي خلق هذه الفجوة التي ما زالت باقية حتى بعد أن انتزع السودان حريته، ونزحت القبائل من مضاربها بعد أن طاف بالبلاد شيئ من رقي، وتجاوبت مع حركة العمل وتغيرت الأوضاع فكراً وثقافة وسياسة ونظاماً، إلا أن هناك شيئاً لم يتغير: نظام اجتماعي قميء، كأن الأيام تفرض أحكامه على الجميع كلما أسفر صبح وادلهم ليل، فالمتفق عليه إجماعاً أنه ليس من اليسير معالجة هذا النظام الاجتماعي البغيض الذي استطاعت فئة قليلة على تجاوزه والتمرد عليه، فالمقصد الأساسي الذي اعتبره الإسلام أساساً للوشائج الإنسانية يقف هذا النظام الاجتماعي دون تحقيقه، فالرحمة والتوادد لا يتحققان إلاّ بالتزاوج والاندماج، وهو الأمر الذي لم يحدث بين الغرب والشمال، وبين الشمال والجنوب، وبين الغرب والجنوب، وبين الغرب والشرق وبين الشرق والجنوب، إلاّ بنسب ضئيلة، فالرجل الشمالي لا ينكل بمن تقدم لخطبة ابنته، كما كان يفعل الجاهليين في سالف العصور، ولكنه يرفضه في صمت، بالرغم من يقين هذا الرجل أن من تقدم لخطبة كريمته أو الزواج منها يضاهيه في الشرف، وأن هذا الخاطب حافظاً لعرضه وسمعته من الافتراء، وأنه لم يجلد في حد، أو يعاقب في قذف، أو يتهم في دنيئة، والرد المتعارف عليه أنه لن يعطي ابنته لأحد من الغرابة حتى يهينها، ومن ينحدر من الغرب لا يزوج ابنته "لجلابي"؛ مصطلح يدمغ به أهل الشمال، وفي الحق أن مشاكل السودان حينما نردها للسياسة فإن السياسة كلمة يراد بها الحرج والتخفيف.
النخب الشمالية
إن مشكلتنا اجتماعية أيها السادة، مع التسليم أنَّ السياسة قد زادت الأمور ضغثاً على إبالة، فمعظم من توافدوا على كرسي الحكم كانوا من الشمال، ونحن نتحدث هنا عن نمط أقره أهل الشمال بالتحريف والتهميش، فسيطرة النخب الشمالية على صولجان الحكم لا يحتاج منا إلى نفي أو تأكيد، وينبغي أن نقر أنه وليد تعميم وانتقائية، وكأن المناصب الرفيعة أمست حكراً عليهم وحدهم من دون سواهم. كل هذه الممارسات تبرهن أن السودان لم يكن كتلة واحدة مترابطة، ولقد شاهدنا في عهد المخلوع عمر البشير، وفي ظل حكم الحركة الإسلامية، ما أن يطغى على المنصب صفان أحدهما يمثل الشمال وصف يمثل الغرب حتى يختار الرئيس الشمالي نائبه أيضاً من الشمال، كما حدث عند تفضيل البشير لعلي عثمان محمد طه على اختيار الدكتور علي الحاج الذي ينحدر من جنوب دارفور.
لا بدَّ من الانتباه لهذه المشكلة، ولهذا الخلاف الذي يدور بين الشمال وبين الغرب، ولا بد من محاصرة هذه المشكلة والقضاء عليها وألا نتركها تستمر لعقود قادمة. على كل القبائل التي تنتسب للعروبة وتعطي نفسها الشرعية لرفض الناس وتصنيفهم أن تترك عنها هذا الادعاء، وأن تنخرط في تصاهر مع كل من ترتضي دينه، فهي إن فعلت ذلك أعطت معاني أكثر اتساعاً لبعض المضامين التي نجترها من دون صدق. لقد حملت هذه القبائل التي تنتسب للعروبة كل خصائص الواقع العربي بكل أسف، بالرغم من السواد واللون الكالح الذي علا بشرتها، فهي شبيهة له في تناقضاته وتعاليه وعجرفته ورفضه للآخر، ولن نتحرر من كل هذه العلل إلا بالالتفاف حول "سودتنا" والعض عليها بالنواجذ، فنحن سودانيون وكفى، لن تجدي التغييرات السياسية والدستورية نفعاً طالما لم نجد في استئصال هذا الداء الكامن في الدواخل، ولن نملك رؤية متكاملة للإصلاح إذا لم نقيم هذا التوازن الذي أفسده الخليفة التعايشي من قبل؛ العقد الاجتماعي الذي يخول لكل فرد أن يتزوج من أحبها وأحبته من دون الأخذ باعتبارات الضعة والشرف؛ العقد الاجتماعي الذي ينهي السيد والمسود، والتابع والمتبوع، وأن يكون التفاضل بالقيم العليا التي يحملها من دين وخلق وعلم، وليس بالجرثومة التي ينحدر منها المرء أو المنبت الذي يعود إليه.
السودان في حاجة ملحة لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالمساواة الاجتماعية هي الطابع المبتور الذي يعكر صفو الحياة في هذا البلد المترامي الأطراف، وهو سبب كل هذه الحروب التي لم تكن تأصرها آصرة، وعندما استحوذت الأحزاب الدينية على السلطة، لم تعط هذه المعضلة أهمية متزايدة، بل عملت على تأجيج الصراعات التي تأخذ هذا البعد القبلي من أجل التغطية على سوء إدارتها وفسادها ونضوبها الفكري، وقد تصاعدت هذه الحروب التي ألحقت الأذى والضرر بمهيضي الجناح من العجزة والنساء والأطفال، ولا تزال تتصاعد حتى بعد ذهاب النظام السابق، وربما تخضع هذه النزاعات والهيجاء لاعتبارات قانونية وأيديولوجية متشابكة، ولكن السبب الأهم لاندلاعها هو التمايز الطبقي الذي يحتاج لتخطيط هادئ ورصين لكبح جماحه.
التعليقات