يرى الكثيرون بأنَّ الدولة العراقية تستوفي كامل الشروط والأركان لتكون في مصاف الدولة ذات السيادة الكاملة، ولكن حينما نأتي إلى التقييم والمراجعة العمليتين، نكتشف بأن هذا الكلام لا يعدو عن كونه حبراً على الورق. الأمر لم يعد يقتصر فقط على ضياع السيادة الجوية على يد الدول العُظمى وبفعل مناوراتها المتكررة، بل إنه تجاوز ذلك الحد ليُنتهك ويُهان مفهوم السيادة على مستوى الحدود والأراضي العراقية بشكل متكرر، ليصبح الداخل العراقي مرتعاً للدول الإقليمية المجاورة ومجالاً مفتوحاً لقواعِدها العسكرية وساحة لتصفية حساباتها! كل هذا ولا ننسى تدخلات الدول الأخرى عبر ضخها الكبير للمال بغية شراء الذمم والإرادات، الذي كان ومنذ اليوم الأول من المشاكل البدائية التي رافقت مسيرة النظام ما بعد 2003.
فشل السياسيين العراقيين منذ البداية في التمترس داخل فلك وطني واحد، وبالتالي انقسامهم على مختلف الجبهات الإقليمية وغير الإقليمية، عطَّل عملية النهوض بالدولة التي لن تقف على قدميها سوى باسترداد سيادتها المنتهكة. دولة تراصت كل صفوفها ومرافقها السياسية والإدارية وفق معادلة واحدة، ألا وهي معادلة: المحاصصة السياسية والمذهبية الضامنة للأطماع الشخصية، لذلك من الطبيعي بمكان أن تكون اليوم في مصاف الدول المهزوزة، لتكتمل بالتالي كل أركان عملية "السبب والمسبب والنتائج" بصورة جلية لا يعصى على أحد تشخيصها بالرغم من تشوه الملامح.
تكمن محنة هذا النظام في نقطة معينة ألا وهي: إحلال التوافقات والأعراف السياسية ومن ثم علاقات القوة بديلاً عملياً للدستور ومواده، وهذا ما فتح الآفاق فتحاً تدريجياً للمسلحين، وبالتالي أحكم قبضتهم ومكَّنهم من مصادرة جزء كبير من القرار السياسي في البلد. حبذا لو يعطينا اليوم أحدهم ولو مثالاً واحداً من بين الدول تكون فيه الحكومة تطالب قوى مسلحة تدعي الانتماء لها أن تراعي مصالح العراق بعدم مهاجمتها الحلفاء؟ الفكرة هنا هي فكرة الجيش والجيش الرديف، كما أنها تتمحور حول مفهوم "احتكار العنف" في قبضة الدولة وضياعه العملي.
دمٌ حلال وآخر مقدس
المحصلة النهائية للأزمات العراقية المُرَحَّلة والمستدامة هي واحدة، يصح التعبير عنها منطلقاً من روح الموروث الشعبي قائلاً: ما زلنا نحن العراقيون نضحي بأبنائنا قرباناً لبنات الآخرين. 20 سنة ونحن ندور داخل ثالوث الدم والدمار والضياع، نبحث كالتائه عن مصالحنا الوطنية التي اختنقت تحت ركام المصالح الشخصية والسياسية، كما أننا مازلنا نبحث عن سيادتنا الضائعة. الأمر لم يعد يحتمل تفسيرات معقدة، وذلك لفرط وضوحه؛ ما يدور في البلد هو حربٌ بالوكالة ابتلي العراقيين بها، حيثُ يسعى الوكلاء من خلالها لضمان مصالح الحلفاء في الخارج.
خارج أطر الجغرافيا.. تعبيراً عن حسرة وطنية
في سياق مفارقة عجيبة، وبعد مرور سنوات، يتواظب المؤسس الرئيس لهذه الدولة الجديدة وكبير المتبجحين بالحرص على حرمة سيادتها على إلحاق الأذى بها، قادماً من خلف البحار والمحيطات، ليخلف ضحايا أكبر وأكثر من بين شعبها، وذلك بقصفه مقار قواتها، ليكون بالتالي الضحية "عراقياً" والبيئة التي تتلوث "عراقية" والاقتصاد الذي يتضرر "عراقياً"! لماذا؟ لأننا مصرون على دخول الحروب بالنيابة عن الآخرين. يبدو أننا نحن الشعب الوحيد من بين الشعوب الذي لا تردعنا حرمة دماء أبنائنا ولا تهالك اقتصادنا ولا تلوث بيئتنا! الكل يضع مصالحه على رأس الأولويات إلا نحن... إما أن نُذَيِّل بها القائمة أو نهمشها من الأساس! وما ضياع السيادة المنشودة وفقدان السياسة لجوهرها وأخلاقياتها وخراب البلاد سوى نتائج محتومة لكل ما ذُكِر.
التعليقات