الولاء للوطن والولاء للمعتقد عندما يلتقيان، فإنهما يكملان بعضهما بعضاً، ويصبحان قوة في شخصية المواطن، يصنعان منه الإنسان المتكامل في عطائه ويصنعان المجتمع الناجح. معظم المجتمعات الصحيحة يتلاقى فيها حب الوطن وحب المعتقد، لكن إذا إفترقا أو تضادا، فهذا يعني أنَّ المعتقد فيه خلل، وحتماً لا يمثل الناس الطيبين من أبناء الوطن، وهو ينبع بالتأكيد من خارج حدود الوطن، ولا يمكن أن يفترقا إلا حين يكون المعتقد دخيلاً على جسد الوطن، ويُنتج افتراقهما صراعات دموية وفوضى وظلماً وفساداً مجتمعياً كبيراً.

متى يفترقان؟ عندما تستوجب استمرارية المعتقد وديمومته الصعود على أكتاف الوطن وإخضاعه له. نأخذ أولاً معنى الولاء للوطن، ويعني الحب والولاء لمن يعيشون داخل الوطن، بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم الدينية والمجتمعية الموروثة، بينما الولاء للمعتقد يعني الحب والولاء فقط لمن يحملون نفس المعتقد أينما كانوا.

خلال العقود الأخيرة، عشنا ظاهرة الولاء للمعتقد الذي لا يلتقي مع الولاء للوطن في ثلاث حالات: الشيوعيون عندما كانوا يوالون الفكر الشيوعي وجدوا أنفسهم في حب وولاء لمنبع الشيوعية وهي دولة الاتحاد السوفيتي، فأصبح الاتحاد السوفيتي رب الشيوعيين ومثالهم الأعلى، ولا تخلو أغانيهم وأحاديثهم وأدبياتهم من رموز الشيوعية في العالم ومن ذكر الاتحاد السوفيتي، وكل ما يصدر منه فيه الجمال والكمال، حتى لو كان سيئاً. فالولاء والحب كفيل بأن يظهره جميلاً. ولو كنا قريبين جغرافياً من الاتحاد السوفيتي لأصبحنا جزءاً لا يتجزأ من تلك الدولة العظمى وقتها.

البعثيون كانوا يتغنون بالولاء القومي العربي، حتى أصبح المواطن العربي إلهاً بالنسبة إلى البعثي، فكل الأولويات والتفضيل للعرب، حتى خيرات الوطن ونفط الوطن يخضع لشعار نفط العرب للعرب. لكن بسبب تشتت وضعف العرب، لم يصبح الوطن جزءاً خاضعاً للدول العربية.

الأحزاب الدينية الشيعية أعلنت ولاءها للمعتقد المذهبي الذي وراءه دولة كبيرة هي إيران، فأصبح أصحاب هذا المعتقد تحت ولاء مطلق لإيران، وبسبب الولاء لإيران، كان لا بد أن يصبح كل ما في الوطن في خدمة إيران، وكل يوم يمر يصبح الوطن جزءاً لا يتجزأ من إيران.

الأخوان المسلمون أرادوا من مصر أن تصبح جزءاً من تركيا، لأنَّ الفكر الاخواني نابع ومستقر في تركيا مهد الحركات الدينية السنية، بينما لو نظرنا إلى المعتقد عند الأحزاب الكوردية، سنلاحظ ارتباطاً كبيراً لهذه الأحزاب بأرض كوردستان، مما جعل المواطن الكوردي يبني وطنه ويوالي تربته ويبدع في عمله وإنتاجه، وليس هناك شي في ذهن المواطن الكوردي فوق كوردستان. ولنا في الصين الشعبية مثال آخر أكثر من رائع، وذلك عندما تأثر الزعيم الصيني ماوتسي تونغ بالشيوعية واعتنق أفكارها، لم يسمح لشعبه بالانقياد نحو الشيوعية واعتبرها عقيدة مستوردة، وقرر أن تكون هناك شيوعية خاصة بالصين أسماها فيما بعد الشيوعية الماوية، لأنه لم يك يقبل بالخضوع العقائدي لدولة أخرى ولم يسمح بالعبودية العقائدية.

في الولايات المتحدة الأميركية، لا يسمح بتداول أي فكر أو معتقد منبعه دولة معادية لمبادىء الديمقراطية، وهكذا تحصن الشعوب أنفسها من خطر المعتقد. نفهم من هذا أنَّ الولاء للمعتقد القادم من خارج حدود الوطن هو سرطان يؤدي بالنهاية إلى تدمير الوطن على يد أبنائه الذين يحملون ذلك المعتقد، ومن المستحيل لحملة المعتقد إدراك هذه الحقيقة، لأن المعتقد الذي لا يمتثل لتراب الوطن هو أفيون يشل قدرات العقل على إدراك الحقائق. اليوم نجد الموالي لإيران يقتل أخاه المواطن السني ويقتل أخاه المواطن الكوردي لأنهما لا يلتقيان بالمعتقد، ولأنهما يشكلان خطراً على دولة المعتقد وفايروس المعتقد.

الشيء الوحيد الذي يجعل أبناء الوطن الواحد يتناحرون ويتقاتلون هو المعتقد القادم من خارج الوطن، وإلا كيف استطاع أبناء الوطن الواحد الذين كانوا يتعايشون سوياً لمئات السنين، يتعاونون ويتصاهرون ويعيشون بسلام ومحبة، أن يصبحوا أعداء فجأة مع دخول المعتقد المستورد؟ هذا يبين لنا أنه لا يوجد معتقد مستورد شريف ونظيف، مهما تم طلاؤه بالدين أو المبادىء السامية أو الخير والمحبة، طالما يتم تحريكه من خلف الحدود، وطالما قادة ومنظري المعتقد يمثلون دولهم.

إقرأ أيضاً: أهمية إدانة أحد مرتكبي مجزرة عام 1988 في إيران

والسؤال كيف يسري المعتقد المستورد في عقول الناس؟ الحقيقة أنَّ مفردات المعتقد تبدو جميلة ومؤثرة في أدبياتها وأفكارها، لكن مفعولها السيء يبدأ بالسريان عندما يتحول هذا المعتقد إلى تنظيم سياسي، وكلنا نعرف أنَّ التنظيم السياسي لا بد أن تكون له أهداف، والوصول إلى تطبيق الأهداف يمر عن طريق الوصول إلى السلطة، والسلطة هنا لا تعني إدارة البلد، بل تعني العمل على تطبيق الأهداف التي تستوجب إزالة كل المعوقات من أمامها، ومن هنا تبدأ المشاكل، لأن جميع الأهداف سوف تصب في مصلحة البلد المنشأ لذلك المعتقد.

فمثلاً، وجود التنظيمات الدينية المذهبية في السلطة لا يمكن أن يستمر ما لم يتم إبادة العرب السنة والقضاء عليهم وإبادة الكورد والقضاء عليهم والقضاء على الأقليات العرقية والدينية، وإلا لا يمكن تطبيق تلك الأحزاب لأهدافها، أما ادعاء تلك الأحزاب بقبول التعايش مع الآخرين في دولة مدنية فهذا مخالف لأهداف تلك الأحزاب والتنظيمات، وقبولها بالواقع يعني سقوطها السريع، لذلك عمدت إلى تأسيس ميليشيات مسلحة للإسراع في تطبيق تلك الأهداف.

إقرأ أيضاً: أزمة غزة وسعي طهران لجعل المياه الدولية غير آمنة

الميليشيات المسلحة ليست سلاحاً منفلتاً كما يدعون، أو كما يفهمها الآخرون، بل هي جزء من برنامج الوصول إلى تحقيق الأهداف، أما تحويل أهداف تلك المليشيات لمحاربة أميركا وإسرائيل، فجاء لإعطاء تلك المليشيات الشرعية والقوة، وهي في الحقيقة لا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بأميركا وإسرائيل، لأنهم يعرفون أنفسهم تمام المعرفة أنهم أصغر من أن يواجهوا أميركا وإسرائيل، ويشاهدون بأم العين جيوش عشرين دولة عربية عجزت أن تزحزح إسرائيل عن مكانتها، ويشاهدون جيوش الدول العظمى تتردد في مواجهة الجيش الأميركي خشية من الهزيمة. يعرفون ذلك لكنهم يمنون أنفسهم بأنهم فعلاً مقاومون، ولولا هذه التمنيات لقتلتهم عذابات النفس، وكل ما يسعون إليه هو إقناع وخداع أنفسهم بأنهم جزء من الوطن، ولهم ولاء للوطن، وهذا الشيء مستحيل تحقيقه لأن عقيدتهم ضد الوطن في كل شيء، وأولها ضد أبناء الوطن الذين يعانون من وجودهم المتسلط.

إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط

إنَّهم يعرفون هذه الحقيقة، وما فسادهم وطغيانهم إلا أكبر دليل على تناقض معتقداتهم مع حب الوطن. وهناك بديهية يجهلونها، وهي أنَّ الولاء للمعتقد على حساب الوطن لا يدوم، ودائماً ينتهي بالخزي والضياع.

مشكلة أصحاب الضمائر الحية والعقلاء والشرفاء والوطنيين على طول التأريخ هي أنهم يكونون ضحية على يد أصحاب الولاءات المستوردة والتي يحملها الجهلاء، والجاهل دوماً يظن أنَّ الناس مثله، أو أقل منه في فهم الأمور واستيعابها.