أصدرت المحكمة الإتحادية العليا في العراق مجموعة قرارات بخصوص إقليم كوردستان، كان أهمها، بل محورها، رواتب موظفي إقليم كوردستان. وقد ذهب بعض التحليلات الإعلامية إلى أنَّ قرارات المحكمة بهذا الخصوص تشكل انتصاراً تاريخياً للحكومة المركزية وللسياسات الإيرانية تجاه أربيل، ملاحظاً أن هذه الخطوة عزلت الشعب الكوردي في كوردستان عن حكومة الإقليم.

وفي الحقيقة، فإنَّ قرارات المحكمة الإتحادية لم تضف جديداً إلى محاولات سابقة مشابهة من قبل الحكومة المركزية، لكن الجديد فيها أنَّ المحكمة حافظت على ماء وجه الحكومة المركزية والحكومات السابقة التي قطعت رواتب موظفي الإقليم من دون وجه حق، الأمر الذي وضع الحكومة في موقف حرج أمام العالم بسبب انصياعها للضغوطات الإيرانية في قطع رواتب موظفي الإقليم، وبالتالي لم يك أمام الحكومة من سبيل للحفاظ على ماء وجهها إلا بالإستعانة بالمحكمة الاتحادية لتعيد الرواتب عن طريق حكومة المركز مباشرة للموظفين، وذاك ليس انتصاراً بل تغطية عار؛ إذ ماذا سيضر حكومة الإقليم إذا تم توزيع الرواتب بشكل مباشر من خلال الحكومة المركزية، أو بشكل غير مباشر عن طريق حكومة الإقليم؟ فالمهم أن تصل الرواتب إلى مستحقيها، وهذا ما يساعد على استقرار الإقليم وتفرغ حكومته إلى نشاطات أكثر أهمية، والرابح في النهاية شعب الإقليم وحكومة الإقليم.

أما الحكومة الإتحادية، فقد نجحت من خلال المحكمة الاتحادية في الحفاظ على ماء وجهها بعد أن تلاعبت بورقة خطيرة جداً، ثم دفعت ثمن فشلها، لأن أقوات الناس غير قابلة للتلاعب بكل المقاييس الدينية والأخلاقية والقانونية والإنسانية. ولو كانت المحكمة الاتحادية عادلة، كان عليها أن تطالب الحكومة المركزية بإظهار المبررات الشرعية والقانونية لقطع الرواتب، قبل أن تضع الحلول وتصدر القرارات. وأرى أنَّ عملية قطع رواتب الإقليم لمدة طويلة فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف السياسية التي خططت لها حكومة طهران بهدف تركيع الكورد وإذلالهم، لذلك أعادوا الرواتب نادمين عن طريق المحكمة الاتحادية، ومن المؤكد بعد فترة وجيزة أن الحكومة المركزية ستعتذر لحكومة الإقليم، ثم تعاد الأمور إلى سابق عهدها وهي توزيع رواتب موظفي الإقليم عن طريق حكومة الإقليم بعد أن تكتشف الحكومة المركزية عقم العملية برمتها، مع احتمالية ظهور فساد وسرقات بالمليارات كما تعودنا من خلال قنوات توزيع الرواتب.

إقرأ أيضاً: خفايا مقابلة بوتين التلفزيونية

إذاً فالعملية هزيمة للسياسات الإيرانية تجاه الإقليم، وأستطيع القول إنه انتصار لحكومة الإقليم يحدث لأول مرة منذ مشروع الاستفتاء. إنَّنا جميعاً نؤمن بأن حقوق الناس وحياتهم ولقمة عيشهم فوق كل الاعتبارات، ولا يجوز التلاعب بمصير الناس لتحقيق أهداف سياسية، لكن، للأسف، فإنَّ سياسات طهران، ولقدرتها على التحكم بقرارات الحكومة المركزية العراقية، لا تأخذ بنظر الأعتبار الجوانب الأخلاقية والإنسانية لقراراتها، خصوصاً في وجود من يطيع أوامرها ولا يعرف مصلحة وطنه وشعبه ولا يفقه من أبجديات السياسة شيئاً، وينسى أن هذه الحقوق والرواتب هي موارد هذا الشعب، والشعب الكوردي هو جزء من جغرافية الوطن لا يمكن إنكاره، وكان الأجدر أن تكون مثل هذه القرارات على شكل توصية لكل من الحكومة المركزية وحكومة الإقليم، لأن كلتا الحكومتين معنيتان بالأمر أكثر من المحكمة الاتحادية، ويمكن إقرارها من خلال لجان مشتركة.

إقرأ أيضاً: الولاء للوطن والولاء للمعتقد

وأرى أنه لا يوجد في قرارات المحكمة الاتحادية الخاص برواتب الموظفين أي انتهاك أو مس بسيادة الإقليم، ولا بحكومة الإقليم، بل انَّ هذه القرارات لا تستحق التهويل الإعلامي. أما القرارات الأخرى المصاحبة لقرار الرواتب، والتي دست كما يدس السم في العسل بشأن برلمان كوردستان والإيرادات وتقسيم المناطق الإنتخابية وغيرها، فهي تمثل انتهاكاً صارخاً للدستور من قبل المحكمة الاتحادية العليا، وعلى برلمان كوردستان وحكومة كوردستان عدم الانصياع لمثل هذه القرارات، وتدويل القضية من باب الدفاع عن النفس، وفضح هذه القرارات بشكل قانوني، لأنها مخالفة للنظام الديمقراطي الاتحادي. فالسماح للمحكمة الاتحادية بالتدخل في شؤون الأقاليم سيسمح مستقبلاً بتدخل المحكمة الاتحادية بكل شيء، حتى بانتخابات اتحاد كرة القدم، وهذه مهزلة يجب إيقافها، وقد أثبتت هذه المحكمة أنها غير نزيهة، وأنها تمثل ذراعاً آخر من أذرع إيران المدمرة، وستكشف الأيام ماهية الآلية التي تحرك هذه المحكمة لتبسيط وتسهيل المهام السياسية بأقصر الطرق.