أثارت مذكرة احتجاج صادرة عن الخارجية السورية حول أبراج المراقبة المنصوبة على طول الحدود السورية اللبنانية والبالغ عددها 38 برجاً استغراباً ينطوي على الكثير من السخرية، بالنظر إلى أن الاكتشاف السوري "الخارق" بشأن التهديد الذي تشكله هذه الأبراج البريطانية على الأمن القومي يأتي متأخراً بنحو 14 عاماً من بنائها، إلا أنه، وفي نفس الوقت، لا بد من أخذ هذه المذكرة على محمل الجد، إذ تحمل في مضامينها ما يشكك بالسيادة اللبنانية، ويتهم مؤسسة الجيش اللبناني بالخضوع لأجندات أجنبية، وهو أمر خطير يكفي لنسف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

بحسب الرواية الرسمية السورية الواردة في المذكرة، فإنَّ أبراج المراقبة تحتوي على آليات تجسسية تستطيع جمع معلومات من مسافة بعيدة في الداخل السوري، ما يمكن بريطانيا من الحصول عليها لترسلها إلى إسرائيل، والتي تقوم بدورها بتنفيد ضربات في العمق السوري استناداً إلى المعلومات التي تقدمها الأبراج، وهو ما يعني أن المذكرة توجه اتهاماً ضمنياً للجيش اللبناني بالمشاركة في أعمال عدائية ضد الأمن القومي السوري.

وعلى فرض أن الهواجس الأمنية السورية مبنية على معلومات مؤكدة وفرضيات متبثة، فهل تحتاج إسرائيل بالفعل إلى معلومات الأبراج على حدود لبنان وسوريا للحصول على بيانات من الأراضي السورية؟ وهل فشلت إسرائيل في الحصول تلك البيانات من خلال فشلها في تجنيد عملاء على الأرض أو من أقمارها الصناعية، لا سيما أفق 7 وأفق 13، القادرة على الرصد والتوثيق والرؤية ليلاً ونهاراً وفي مختلف الظروف المناخية؟

إقرأ أيضاً: الناتو يتوسع وبوتين أساء التقدير

المذكرة السورية تحمل أبعاداً سياسية خلافاً لما تضمنته من أبعاد أمنية، وفي الحقيقة، تولت الخارجية السورية بالنيابة عن حزب الله توجيه رسالة للحكومة اللبنانية والجيش اللبناني من مغبة تغيير الوضع القائم في جنوب لبنان على خلفية العرض الذي قدمه وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون للحكومة اللبنانية بشأن بناء أبراج مراقبة على طول الحدود مع اسرائيل، قد تكون مقدمة لتفاهمات أخرى لها علاقة بترسيم الحدود لا تصب في مصلحة سوريا وحزب الله معاً، على اعتبار أنَّ سوريا لا تريد الاعتراف على مضض بلبنانية مزارع شبعا وكفرشوبا، وحزب الله لا يريد الوصول إلى حلول سياسية تنهي مشروعه القائم على المقاومة وتحرير الأرض، وهذه الفرضية مدعومة بجملة من التحركات والرسائل الدولية، خصوصاً أنَّ التوترات الأخيرة التي شهدتها المنطقة الحدودية ما بين لبنان وإسرائيل أعادت طرح ملف ترسيم الحدود البرية بين البلدين.

الرد اللبناني على المذكرة السورية لم يصدر رسمياً في انتظار أن يصاغ بالتنسيق ما بين رئاسة الحكومة والجيش، لكن تعليق وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عبدالله بوحبيب اتسم بالموضوعية وتجنب الهجوم على هذه الاتهامات الخطيرة من باب عدم الانزلاق إلى تسميم الأجواء بين البلدين الجارين، حيث أشار بوحبيب إلى الدور المنوط بأبراج المراقبة في ضبط الحدود والتضييق على نشاط المهربين، ولكن كان من الأولى أن نسمي الأشياء بمسمياتها أو نضع النقاط على الحروف، فالتهديد الحقيقي يأتي من سوريا ضد لبنان، وما يأتي من مخدرات ومن شبكات تهريب للبشر جراء تقصير وفشل الجانب السوري في ضبط حدوده، بل إن وجود شبكات للتهريب تعمل تحت غطاء من جهات رسمية سورية على الحدود مع لبنان كفيل بإصدار مذكرة أممية في هذا الصدد.

إقرأ أيضاً: ما الذي تبقى من قطاع غزة؟

ربما تناسى النظام السوري بأنه وضع أمنه القومي في خدمة الأجندات الخارجية بفتح أراضيه للقواعد العسكرية الروسية نظير إنقاذ النظام من ثورة الشعب، وصدر مئات الملايين من حبوب الكابتاجون إلى الأردن والعراق والسعودية ولبنان ودول الخليج العربية الأخرى، وتناسى النظام أيضاً أنه أدار ظهره لمسألة التوطين المقنع للسوريين في لبنان، لما يشكله هذا الأمر من تهديد للأمن القومي اللبناني بتغيير ديمغرافية البلد، وأنَّ لبنان كان المتضرر الأكبر من موجة اللجوء السورية التي أتقلث كاهله اقتصادياً وأمنياً، ويفترض أن يحمل الرد اللبناني تذكيراً بالمثل القائل "من كان بيته من زجاج لا يقذف الناس بالحجارة".