ما يحدث في العراق سابقة خطيرة لم تحدث في أي بلد في العالم، لا في هذا الزمان ولا في أي زمان، وهو تشريع القوانين الدينية في دولة مدنية. المعروف عن الدولة المدنية أن قوانينها تصدر تحت قبة البرلمان، وتكون موافقة لدستور الدولة المدنية. يتم طرح هذه القوانين من قبل خبراء القانون في البرلمان للتصويت عليها، وتكون استجابة لمتطلبات الواقع المتغير، لا استجابة لرأي فقهاء الدين، وبشرط أن تتلاءم هذه التشريعات القانونية مع جميع الأطياف والمكونات المجتمعية، وحتى مع اللادينيين في المجتمع؛ لأن الدولة مدنية، أي دولة الجميع بلا استثناء. هذا هو المقصود من الدولة المدنية، حيث القانون والدستور يعطيان الحق للجميع بالتساوي.

التشريعات البرلمانية يجب أن تكون متقاربة مع مثيلاتها في دول الجوار، بالنظر إلى الترابط الاجتماعي والثقافي المتداخل بين الدول المتجاورة. وتكون أيضاً متناسقة مع التوجه العام لقوانين المجتمع الدولي. وطالما أنَّ الدولة مدنية دستورياً، فيجب أن تكون قوانينها مدنية بالمفهوم الحضاري، أي أنها لا تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة والتي وقع عليها جميع أعضاء هذه المنظمة الدولية، ومن ضمنهم العراق.

العراق كبلد إسلامي يمكن أن يصبح دولة دينية إذا صوت أعضاء البرلمان بالأغلبية على أن يكون العراق دولة دينية رسمياً. فهؤلاء أعضاء البرلمان هم ممثلو الشعب، ويملكون الصلاحيات لتغيير الدستور وتغيير شكل الدولة. عندها ستكون تشريعات القوانين الدينية في البرلمان أكثر سهولة ومقبولية وغير قابلة للاعتراض لا من قبل المثقفين العلمانيين ولا من قبل المنظمات المدنية ولا من قبل أيّ جهة، لأن الدولة تصبح حينذاك ذات صبغة دينية حسب قرارات نواب الشعب داخل البرلمان. أما أن يصرّ هؤلاء النواب على بقاء الدولة مدنية ولكن سن قوانين دينية، فهذا شيء غريب. وحتماً سيؤدي ذلك إلى نتائج شاذة وغير متناسقة، كالذي يحقن مصل الحيوان في الجسد البشري ليشفيه من المرض من دون أن يحسب أن الجسد البشري قد يتعرض لمضاعفات خطيرة، فالمصل الحيواني للحيوانات والمصل البشري للبشر. هذا الشيء الذي لا يدركه ولا يدرك عواقبه المشرع العراقي للأسف الشديد.

ثم ما المانع أن يصبح العراق دولة دينية كأفغانستان وإيران طالما هناك رغبة حقيقية عند أكثر من نصف أعضاء البرلمان في بناء دولة دينية مثالية؟ أما النصف الآخر فيمكن إسكاتهم وترويضهم. فلا يجوز أن يجتمع النقيضان في تشريع القوانين، وكما قال خليفة المسلمين: "لا يجتمع سيفان في غمد واحد".

على مستوى الشعب وعامة الناس، فالمثقف والعلماني والمتحضر والإنسان الحر وأتباع الديانات والطوائف الأخرى لا يستطيعون العيش في ظل الدولة الدينية. فالأولى لهم البحث عن أرض أخرى يهاجرون إليها لتحتضنهم، أو السكوت والرضا، أو تعم الفوضى ربوع البلد. فشعبنا ليس كالشعب المصري. فقد رأينا ماذا فعل الشعب المصري مع حركة الإخوان المسلمين عندما بدأوا بتشريع القوانين الدينية في الدولة المدنية المصرية. فكان جواب الشعب مع الجيش وبصوت واحد ضد حركة الإخوان المسلمين: "اخرجوا من حياتنا أيها المتأسلمون المتخلفون". فأزاحوا الإخوان المسلمين من سدة الحكم ومن البرلمان وطردوهم حتى من أرض مصر، فنُظفت أرض الفراعنة من أبشع ملة حكمت البلاد طوال التاريخ.

إقرأ أيضاً: عيوب الديمقراطية

ولكن في العراق، الأمر يختلف، وقد يُطرد الشعب كله إذا فكر أن يقلد الشعب المصري أو يخطو خطواته. ولدينا شاهد حي في ثورة تشرين قبل خمس سنوات، كيف تم سحق شباب هذه الثورة وقتلهم، وكيف وقف الجيش العراقي متفرجاً على قتل أبناء الشعب. فلا جيشنا كالجيش المصري في حبه للشعب والدفاع عنه، ولا مثقفونا مثلهم، ولن نكون مثلهم.

وللعلم، في الدولة المدنية الدولة لا دين لها. فالدين معزول تماماً عن الدولة. فمن الغباء تشريع القوانين الدينية داخل الدولة المدنية، لأنها بالنهاية ستصطدم ببعضها، فتخلق تناقضات اجتماعية غريبة تجبر المجتمع على تقبلها، ومن ثم يدفع المجتمع ثمن تقبلها. سيكون النفاق سمة الإنسان العراقي الجديد. سيضطر المواطن إلى أن يكون منافقاً في كل شيء لكي يعيش. ستجتمع العبادة مع الفساد، سيجتمع الدين مع المنكرات، سيجتمع العلم مع الخرافة والجهل، وستجتمع جميع المتناقضات، ويتحول مجتمعنا إلى مجتمع غير طبيعي. وهذا ما يحصل فعلياً عند الناس. وما نسمعه يومياً في الإعلام المرئي والمسموع وفي التواصل الاجتماعي عن أغرب السلوكيات الاجتماعية المتناقضة التي تعصف بحياة الناس هو خير دليل على ما نشير إليه هنا في مقالنا.

إقرأ أيضاً: لماذا العداء لكوردستان؟

لا يمكن بناء دولة ومجتمع بطريقة متناقضة. وهل نحتاج إلى دليل كي نثبت ذلك أمام هذا الكم الهائل من الأدلة التي بعضها مخزٍ ومعيب بحق وطننا وشعبنا؟ فملخص القول، لا اعتراض على تشريع القوانين الدينية عندما يتم الإعلان رسمياً عن تسمية دولتنا بالدولة الدينية، وإلا فهذا نفاق سياسي وتجاوز لا يغتفر لحقوق الناس في ظل الدولة المدنية.

في نكتة جميلة نقلها لي أحد كبار السن تعبر عن حالة التناقضات في حياتنا، قال: على ظهر سفينة نبي الله نوح اجتمع الذئب والحمل. فلأول مرة في التاريخ اشتكى الذئب من الحمل عند النبي نوح فقال الذئب: "يا نبي الله، إنَّ الحمل يرفس برجله التراب فيعج التراب في وجهي فيضيق نفسي. هل سمحت لي يا نبي الله أن أفترس هذا الحمل ليكون عبرة لبقية الأنعام؟"، فأجابه النبي نوح ضاحكاً: "ومن أين جاء التراب على ظهر السفينة ونحن لم نرَ اليابسة أياماً طويلة؟". الحقيقة هي غريزة الافتراس عند الذئاب وليست ذريعة التراب، فلا تخدعونا!