العلمانية هي طريقة حكم الدولة وتعتمد الشكل العلمي القانوني الدستوري في أسلوب بناء وقيادة الدولة، بينما الدين عقيدة روحية أخلاقية الهدف منها بناء شخصية الإنسان وترميم كيانه، وقد جاء خطأً أنَّ العلمانية هي الإلحاد ومحاربة الدين (الدولة العلمانية هي نفسها الدولة المدنية)، فهناك الكثير من العلمانيين متدينون، فلا العلمانية تنتقص من الدين ولا الدين الحقيقي يعارض العلمانية.

في الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، يلعب رجال الكنيسة الإنجيلية دورًا بارزًا في تحديد قيادة البلد على الطريقة العلمانية، وفي بعض الدول الأوروبية تنشط أحزاب ذات طابع ديني تعمل من أجل الدولة العلمانية. في الدول الإسلامية، سعت الأحزاب الدينية إلى الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات التي تعد شكلاً من أشكال الدولة العلمانية، فمن يحاول إيجاد ثغرة عقائدية ويذهب إلى أن العلمانية ضد الدين فهذا جهل، فلو كانت العلمانية ضد الدين لتم وضع القوانين (في الدول العلمانية) لمحاربة الدين ومنعه من الوصول إلى حياة الإنسان.

صحيح أنَّ العلمانية نشأت لفصل المعتقدات عن الدولة، وليس الدين فقط، لأن جميع المعتقدات نجد قادتها يعملون على أدلجة الدولة مما ينتج عنه اضطهاد لمن هو في خانة المعتقد الآخر ومنع التفكير المخالف في المجتمع، إلا أنَّ العلمانية ألغت الاضطهاد العقائدي وبنفس الوقت أنصفت الدين وأنصفت جميع المعتقدات، حتى الشاذة، بمعنى أنها أعطت الإنسان حق الاعتقاد بدون اضطهاد وبدون إكراه على معتقد واحد، وهذا ما لم يكن موجوداً قبل شروق شمس العلمانية في التاريخ البشري. فلأول مرة في التاريخ الإنساني يتعايش الكافر والملحد والمؤمن والشاذ والسيد والعبد والأسود والأبيض في دولة واحدة وتحت قانون يتساوى فيه الجميع إنسانيًا وحقوقيًا في ظل الدولة العلمانية. فقد عاش الإنسان طوال حياته قبل بزوغ نور العلمانية تحت الإكراه العقائدي في جميع المجتمعات، فكانت ثمرة هذا الإكراه العقائدي الحروب والتخلف العلمي وانعدام حقوق الإنسان.

لعل أخطر ما عانت منه البشرية على مر التاريخ هو أن يصبح الدين أو المعتقد سلطة، لذلك جاءت العلمانية لتجعل السلطة للقانون، فيما أباحت للفرد حرية المعتقد. في مجتمعاتنا، هناك فوضى عارمة في أفكار الناس بين الخوف على الدين والرغبة في بناء حياة مدنية علمانية، والسبب هو إيحاءات رجال الدين بأن العلمانية ستقضي على الدين وتلغي وجوده، فالناس يرغبون بدولة تعزز وجودهم وخوفهم من أن ذلك سيكون على حساب دينهم وعلى حساب تراثهم. هذا الخوف ناتج عن سوء فهم لمعنى الدولة المدنية، فهم يرسلون أبناءهم إلى المدارس ليتعلموا مبادئ العلم التي أنتجتها عقول العلماء المبدعين، وبنفس الوقت يخشون من هذا العلم الذي قد يبعدهم عن دينهم. أغرب حالة في هذه الدنيا أن تجد إنسانًا يخشى الشيء الذي ينفعه، والأكثر غرابة أنه يحارب هذا الشيء الذي ينفعه ويحيي وجوده ويتمسك بما هو ضار له. نعم، ما يفعله إنسان المجتمعات المغيبة عقليًا التي لا تعطي الإنسان حق الاختيار الأصلح هو النموذج الأمثل في مجتمعاتنا. عندما نجد رجل دين يشارك في إنجاح النظام السياسي في الدولة المدنية العلمانية من خلال الانتخابات الحرة وهو لا يريد أن يحشر الدين في شؤون الدولة، فهذا رجل دين حر استوعب العلمانية وقدم خدمة لمجتمعه، وفي مكان آخر نجد رجل دين يحارب إقامة نظام سياسي حر ويدعو إلى إقامة نظام ثيوقراطي ديني بدعوى الكفر والفسوق في النظام السياسي العلماني في هذا العصر تحديدًا. نخلص من ذلك إلى وجود نوعين من رجال الدين، نوع يبحث عن مصلحة الناس ومصلحة البلد وهو إنسان مصلح، ونوع يبحث عن مصلحة الدين أو المذهب أو مصلحة المؤسسة الدينية جهلًا. النوع الأول يتحول تدريجيًا بمرور الزمن إلى حمامة سلام ومصدر إلهام روحي، والنوع الثاني يجد نفسه مضطرًا أن يكون حاضنة للإرهاب وهذا ما نلاحظه في عالم اليوم.

إقرأ أيضاً: لماذا يدعمون إسرائيل؟

من المفارقات العجيبة في نظام الحكم العلماني أنه ينتج قادة مصيرهم بيد الشعب ويعملون جهد ما يستطيعون لإرضاء الشعب، بينما النظام الذي يريده العقائديون المتدينون ينتج قادة يرعبون الناس فيصبحون سيوفًا مسلطة على رقاب الناس. نظام الحكم العلماني ينتج أجهزة أمنية أمينة تحمي البلد وتسهر على راحته، بينما نظام الحكم العقائدي ينتج أجهزة أمنية شرسة تهدد حياة المواطن وتسهر على راحة رجالات الحكومة. السؤال المطروح عند البعض، لماذا لا يتم مزج المفاهيم الدينية بالدولة العلمانية طالما الدولة العلمانية جاءت لخدمة الناس وتوفير حياة آمنة مستقرة لهم، وكذلك الدين يحمل مفاهيم إنسانية رائعة؟ الجواب يكون كالآتي: أساس المفاهيم الدينية وركيزتها هي مفهوما الحلال والحرام، وهذان المفهومان ليس لهما وجود في قوانين الدولة المدنية أو العلمانية، فعندما يأتمن المسؤول في المفهوم الديني على أموال الدولة يكون ذلك بناءً على سمعته الظاهرة فيصبح فوق القانون، بينما في قوانين الدولة المدنية العلمانية مهما كانت سمعة المسؤول طيبة سيكون هناك جرد سنوي ومتابعة دورية لجميع نشاطات المسؤول على أموال الدولة فالمسؤول تحت أنظار القانون. وهذا فارق كبير، أو أن المفهوم الديني يضع قانونًا قضائيًا لا يمكن قبوله في الدولة المدنية العلمانية (مفهوم البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) هذا المفهوم يمكن تطبيقه في المجالس العشائرية والخصومات المجتمعية، أما الدولة فعندها خبراء وأخصائيون وقانونيون قادرون على إيجاد الأدلة والبراهين ودراستها وتحليلها لكل المواقف القضائية ولا قيمة لليمين هنا، فهذا المزج المطروح سيكلف المجتمع والدولة الكثير خاصة بعد دخول التكنولوجيا الرقمية والروبوت والذكاء الصناعي الذي لا يمكن أن يعرف معنى الحلال والحرام الذي هو مفهوم مجتمعي ديني محدود ويعتبر ضروريًا للمجتمع وليس للدولة لأن الدولة تعتمد الأدلة والوثائق في كل صغيرة وكبيرة. بهذا الشكل يجب علينا النظر للأمور لكي نخطو إلى الأمام خطوة.