مثل باقي التطورات الاستراتيجية المتسارعة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط والصراعات الدامية التي تسفر دائمًا في نتائجها عن الخضوع لإرادة الدول العظمى وسيناريوهاتها، حدث في الأيام السابقة حدث دراماتيكي كبير في سوريا؛ شن مقاتلو جبهة النصرة، ورثة تنظيم القاعدة والتي عدلت تسميتها إلى "هيئة تحرير الشام"، إلى جانب الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، هجمات على قرى حلب من الجو بطائرات مسيّرة أوكرانية، ومن الأرض بأسلحة الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولم يكتفِ الجيش السوري والميليشيات الشيعية بإخلاء قرى ومرتفعات المنطقة، بل سلّموا حلب لمقاتلي النصرة من دون مقاومة.

في هذه المرحلة الجديدة، ليس ما يحدث خللًا إنما إعادة صياغة مدى أحقية القوى المتواجدة في الساحة السورية في البقاء في المستقبل القادم، ومن يملك دفة التحكم في حكم الدول العميقة في كل من سوريا وتركيا والعراق. علمًا بأنه أصبح للأكراد مكان في سوريا، والقضية الكردية في سوريا مرتبطة بشكل مباشر بالأمن القومي التركي. بمعنى آخر، يشكل غرب كردستان جزءًا مهمًا من العمق السياسي والاستراتيجي لشمال كردستان. ولهذا السبب شجّع الأتراك على إيجاد حل للقضية الكردية في تركيا.

كما تداول الإعلام التركي، توجه زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي نحو فصيل من حزب العمال الكردستاني في البرلمان التركي في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) وصافح ممثليه. ثم أدلى ببيان غير متوقع يدعو إلى حل المشكلة الكردية في تركيا. ولم يتوقف باهتشلي عند هذا الحد، بل طالب أيضًا بإطلاق سراح "آبو" الكردي من السجن، بشرط أن يذهب إلى البرلمان ويعلن حل حزب العمال الكردستاني. في الشهرين الماضيين، كُتبت عشرات المقالات التحليلية والتنبؤية حول خطوة باهتشلي غير المتوقعة. لكن لم يكن من الواضح لماذا لم يستجب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل مناسب لدعوة باهتشلي.

لماذا دعا أردوغان علنًا وبشكل متكرر الرئيس السوري بشار الأسد إلى الجلوس معًا لحل المشكلات؟ وطلب من الرئيس التركي السابق عبد الله غول نقل النصائح البريطانية إلى أردوغان وباهتشلي خلال زيارته الأخيرة للمملكة المتحدة، بحسب معلومات مسرّبة. النصيحة تقول: "التغييرات قادمة في المنطقة، حلّوا المشكلة الكردية بأنفسكم قبل إيجاد حل خارج تركيا!". لم تهز الرسالة والتحذير البريطاني لتركيا الحكومة فحسب، بل صدمت الدولة العميقة في تركيا التي يمثلها باهتشلي. السبب الرئيسي لدعوات باهتشلي لحل القضية الكردية يرتبط بشكل مباشر بهذه الرسالة.

هل يجب أن يستعد العالم للتغيير؟ التطورات الحاصلة حالياً هي بمثابة فرص لكل القوميات في الدولة التركية والسورية والعراقية ،الإيرانية، وخاصة الأكراد وما لهم من دور في كيفية إدارة المعارك في الدول الأربعة. لكن هذه التطورات من جهة أخرى تمثل خطرًا على وجود الواقع الكردي، عند عودة القوى العالمية إلى مبدأ الحفاظ على سيادة الدول العربية وتركيا أيضًا. لأن أيّ خلل آخر في سيادة هذه الدول في المرحلة القادمة قد يشعل فتيل حرب عالمية أخرى.