أمام ذهول البراءة من توالي تساقط الأرواح البشرية كأوراق الأشجار في الخريف المحزن، في فترات عديدة وكثيرة، وفي ظل الانتشار السريع والهادئ للكثير من الأوبئة والحروب على مر الأزمنة والعصور، أمام نظريات ظلم الواقع عمدًا، عندما تعطي لنفسها الحق بصباغة أفكارها باسم العلم والعلوم.

نظريات في الغالب تحكم على نفسها أصلًا في خندق نطاق المحدودية النسبية، البعيدة كل البعد عن الموضوعية، والحتمية المفقودة.

تلك الحتمية، بحكم تسلسل الأحداث التاريخية والمعطيات الجغرافية، تندرج وتجزم في عنصرين ثابتين، وهما: حتمية الموت، وحتمية وجود خالق عظيم للكون والحياة الخفية والظاهرة في آن واحد.

وفي خضم جبروت الجهل البشري، بسيرورة ومسير العبر من منطلق دراسة المآسي التاريخية التي أكّدتها الطبيعة بنسبة تفوق ما يُقدم عليه البشر ضد البشر، بهدف تحقيق ما يُسمى بالتيموس، أي حب الاعتراف والرغبة الجامحة في إخضاع البشر للبشر، بطرق مختلفة وصلت إلى حد الاستعباد، باستعمال وسائل القوة القمعية أو وسائل الإعلام المضللة، أو طرق الدعاية المحركة للأحاسيس غير العاقلة الميالة للتفاعل مع مثيرات العزف والموسيقى الحماسية وغيرها من المنبهات التهييجية الاندفاعية!

ها هو التاريخ يعيد نفسه بقوة زحفه على المساحات الجغرافية، غير مبالٍ بالحدود الوهمية التي أحدثها الفكر البشري، بهدف صد الحركات السكانية وتحويل الأرض المشتركة إلى أسلاك شائكة، عنوانها الحدود القامعة للتعارف والتعايش بين الأفكار والثقافات، والأحاسيس الوجدانية المفعمة بالقيم الإنسانية، والمكبوتة بمفاهيم معرقلة للتنوع البشري. هاته المفاهيم ماضية في التكتل في رزنامة من المصطلحات المصطنعة، كمفاهيم الدولة والسيادة والعالم النامي مقابل العالم المتحضر، وغيرها من العبارات المغروسة أكاديميًا، المجانبة للصواب أخلاقيًا وكونيًا، والفاقدة للشرعية وجوديًا، ما دامت الأرض مشتركة وجامعة للبشرية الضامنة للتنوع البيولوجي الغني بتوازنه وروعته الخلقية والخلقية العظيمة!

فها هو التاريخ يعيد نفسه من جديد؛ فالحروب عندما تشتعل تتمدد في مساحات جغرافية لا دخل لها فيها. وهو ما تمليه وتحدثنا عنه مختلف الكتابات والرموز التاريخية الضاربة في القدم، تلك الصراعات التي خاضتها الحضارات القديمة، كبلاد الرافدين (العراق)، وبلاد فارس (إيران)، وشبه الجزيرة العربية، وفينيقيا (لبنان)، وقرطاج (تونس)، والرومان، والبيزنطيين، والمغرب القديم، والإغريق، وحضارة المايا والإنكا في البيرو والمكسيك، وحضارات أخرى عديدة ومتمددة، ربما ظُلمت في حقها من حيث التدوينات والكتابات التاريخية المتنوعة والغزيرة، مرورًا بالحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرها من التطاحنات المميتة، والتي وظفت مصطلحات جوهرها يقتصر على دلالية الأنانية، كالعظمة والكرامة والهيبة، وذلك بهدف تبريرها لسفك دماء أقوام تختلف عنها أو تعارض ثقافتها، أو تتعاكس مع أيديولوجيتها المتنوعة المختلفة.

إقرأ أيضاً: الشرق الأوسط و"طبخة" اللغز الغريب

فكانت النتيجة الثابتة مقتصرة على القتل والتدمير والتجويع، تجويع من؟ الأبرياء بطبيعة الحال، وهتك أعراض الأمهات والبنات البريئات بدون إنسانية ولا حياء مفاهيمي. والغريب في هذا التاريخ الأعرج هو أن أغلب المدارس التاريخية تتغاضى عن الكتابات الممجدة لتلك الحضارات رغم البناء الحضاري، بناء أُسس في معظمه على سيل ليس بيسير من الدماء، والسمو بفكر ديكتاتوري قمعي، على حساب معاناة أجيال ماتت بدون سبب، إلا بعجرفة لُخصت في مفاهيم مبهمة يمكن حشرها بكل بساطة في عبارة قلة الأدب!

أما تاريخ الأوبئة، فلا غرابة فيه، إذ إن ماضي الشعوب والمجتمعات مليء بالقصص والمآسي. إن وباء خبث عجرفة الإنسان عندما ينطلق من موطن ما، تقف الجغرافية بكل تلاوينها الطبيعية، الاقتصادية، العسكرية، السياسية، والثقافية عاجزة عن صده، لكن النتيجة واحدة مشتركة بين البشرية جمعاء. هذا المشترك شعاره حامل فقط لحمولة ثنائية اسمها الخوف والموت، مع الجوع والعدوى وانهيار النظم الاقتصادية والأساطير التكنولوجية، والدخول في قوقعة الحجر الصحي والسجون المنزلية هلعًا من شبح قاتل لا يراه أحد، بل يحتاج للتشخيصات المجهرية والأقنعة الواقية فقط.

إقرأ أيضاً: المسيرة الخضراء والقلب النابض لتاريخ المغرب

وأمام زحف المآسي التي سُجلت ودُونت في عالم اسمه التاريخ، تبقى الجغرافية عاجزة عن التحرك، لسبب واحد وهو أنها تتأسف على غباء البشرية في فهم طبيعة الكون، والتعامل وفق روح أخوية، ما دام الكل يستنشق نفس الهواء، ويشرب نفس الماء، ويأكل نفس الغذاء، وله غرائز متشابهة ويشترك في الموت والحياة.

لكن، وفي غياب رجاحة تفكير العقول غير القادرة على استشراف هول آفاق الأخطار المحدقة بالجميع، إذ اقتصر الإنتاج الفكري على أفكار ذاتية محضة ومصلحة ليس إلا، تعجرفت اللامبالاة بواقع الاحتياجات المرتبطة بالبشرية، واستُبعدت العقول المفعمة بالأحاسيس الإنسانية. بل أصبحت بعض الأفكار مثقلة بالترسبات الحجرية الحاقدة والكارهة للماضي والحاضر، والجاهلة تمامًا للخطر المحدق على الجميع في المستقبل المجهول الغامض، والذي لا أحد في هذا الوجود باستطاعته تحديد وتقدير مخاطره على الأرض، والبشر، والشجر، والحجر، و… إلا الخالق عز وجل، سبحانه رب العالمين.