هل نحن أمام شعب فقير أم غني؟ سؤال يتبادر إلى الذهن كلما تأملت تفاصيل الحياة اليومية للأسر الكردية. تلفوناتهم آخر إصدار، سياراتهم فخمة، أثاث منازلهم حديث، ملابسهم من أرقى الماركات، وأطعمتهم لا تنقصها الأنواع والتكلفة العالية. ومع كل ذلك، تسمع الشكوى المستمرة: "لا نملك النقود… لا يوجد عمل… الرواتب لم تُصرف." فكيف نفهم هذا التناقض العجيب بين ما نراه، وما نسمعه؟
في الواقع، يصعب التمييز بين الطبقات الاجتماعية في المجتمع الكردي. الفقير لا يبدو فقيرًا، والمتوسط يتصرف وكأنه غني، والغني أحيانًا يظهر بمظهر متواضع جداً. تجد من يمتلك بيتًا بآلاف الدولارات وسيارة فارهة وملابس فاخرة، لكنه يصرّ على أنه مديون ولا يملك شيئًا. البعض يعيش في ديون متراكمة دون اكتراث، ويحب المظاهر على حساب الأساسيات، لدرجة أن مفهوم “العزيمة” عند زيارة الأقارب قد تكلفهم مئات الدولارات في كل مرة.
رغم هذه المظاهر، فإنَّ واقع الحال مختلف. كثير من هؤلاء لا يمتلكون حتى 100 دولار كرصيد في بيوتهم، بينما يملكون سيارة سعرها 20 ألف دولار، ومنزل يتجاوز ثمنه 50 ألفًا، وملابس قد تفوق قيمتها 1000 دولار. وفي المناسبات الاجتماعية، لا يترددون في إقامة عزائم تكلف بين 100 إلى 400 دولار في كل مرة، وكأنَّ الغلاء لا يعنيهم.
الأكثر إثارة للدهشة هو أنَّ هذا الشعب – رغم كل هذه المظاهر – يُظهر دومًا صورة الفقر. حتى من تراه متأنقًا يعيش في بيت جميل، قد تسمعه يقول: "أنا مديون" أو "ما عندي شيء". وقد تسمع شخصًا يقول لك إنه فقير، وبعد مدة يخبرك أن أحدهم نصب عليه وسرق منه 20 ألف دولار! فهل هذا فقير حقًا؟ أم أن هناك مبالغة متعمدة في إظهار الفقر، أو تضليل مقصود لإخفاء حقيقة الوضع المالي؟
من المظاهر المؤسفة أيضًا أنَّ الديون منتشرة، لكنَّ الوفاء بها قليل، إلا من رحم ربي.
ولعلَّ من بين أكثر الأمور إزعاجًا في هذا السياق، هو غياب الاهتمام بالصحة. فبينما يُنفق الكثير على المظاهر، لا تجد اهتمامًا بنوعية الغذاء أو الوقاية من الأمراض. كما أن البعض يعمل تحت حرارة الشمس الشديدة بحثًا عن المال، دون وعي بأن هذا المال قد يُصرف لاحقًا على علاج ما سببه الإهمال الصحي.
في هذا الخلط، يصعب التمييز بين الطبقة الفقيرة والمتوسطة والغنية، لأن الجميع يظهرون بمظهر مشابه، لكن دواخلهم مختلفة. الفقير لا يبدو فقيرًا، والمتوسط يُظهر الغنى، والغني يتظاهر أحيانًا بالفقر.
من خلال معيشتي في أوروبا، أرى أنَّ هذه المظاهر تختلف كثيرًا. فالشعوب الأوروبية تهتم أكثر بالراحة النفسية والاستقرار، وتعيش وفق إمكانياتها، وتحترم بعضها بعضاً بشكل عميق، وتُقدّر العلاقات الاجتماعية المبنية على الاحترام، وليس على الشكل والمظاهر.
فما هو الحل؟
حسب رأيي المتواضع، يمكن تلخيص الحلول في النقاط التالية:
تعزيز ثقافة التوازن والاعتدال: من المهم أن نعيد توجيه الاهتمام من المظاهر الزائفة إلى الجوهر، عبر نشر الوعي بقيمة البساطة، وعدم التباهي بما لا نملك فعليًا.
تشجيع الصدق المالي: لا بد من ترسيخ ثقافة الشفافية في الحديث عن الوضع المادي، والكف عن التظاهر بالغنى أو الفقر، لتجنب الوقوع في الديون أو التقدير الخاطئ للآخرين.
احترام الذات والغير دون تمييز: تعزيز قيمة احترام القريب كما نحترم الغريب، وإعادة بناء جسور الثقة داخل المجتمع، خصوصًا بين أفراد العائلة والجيران.
التركيز على الصحة قبل المظهر: التوعية بأهمية الغذاء الصحي والنشاط البدني، والحد من الإنفاق غير الضروري على الكماليات التي لا تعود بفائدة حقيقية.
نشر الوعي المجتمعي من خلال الإعلام والتعليم: دعم البرامج الثقافية التي تناقش هذه الظواهر بشكل صريح، وتسلط الضوء على آثارها الاجتماعية والاقتصادية، وتقديم نماذج ناجحة في إدارة المال والمعيشة المتزنة.
التفريق الواضح بين الطبقات دون خجل أو تكلف: الاعتراف بالفروقات الطبقية لا يعني الإقصاء أو التفرقة، بل يساعد على وضع حلول عادلة، وتقديم الدعم الحقيقي للفئات المحتاجة بدلًا من دعم المظاهر الخادعة.
إعادة بناء ثقافة الضيافة بطريقة عقلانية: لا مانع من الكرم، لكن ضمن حدود المعقول. يمكن تحويل العزائم إلى لقاءات بسيطة تعبر عن المحبة أكثر مما تعبر عن التفاخر.
التعليقات