تؤيدون أننا في عالم لم يعد فيه الحضور كافياً؟ بل يجب أن يكون مرئياً، موثّقاً، مصقولاً بما يليق بالنشر! صارت اللحظات تُقاس بعدد من يشاهدها، وصار الوجود يُثبَت بحجم التواجد على المنصات الرقمية. لم يعد يكفي للإنسان أن يكون كما هو، بل بات مطالباً بأن يظهر كما يريد المتابع، وأن يُبقي الكاميرا مفتوحة طوال الوقت ليلحق الركب.

لقد أصبحنا في زمن تُمارس فيه المشاركة كواجب، لا كخيار. ليس بدافع الرغبة دائماً، بل لأن الواقع الرقمي يفرض منطقه الخاص. هي الحتمية الرقمية؛ تلك القوة الناعمة التي تُعيد تشكيل السلوك دون إرادة صاحبها، وتحوّل البشر من أصحاب حياة، إلى صُنّاع محتوى. لكن في خضمّ هذا المشهد المزدحم، هناك من قالوا: لا، فتحيةً لهم.

تحية لهؤلاء الذين اختاروا أن يبقوا بعيدين عن الكاميرا، وأن يحموا أنفسهم من استنزاف الضوء. الذين ما زالوا يحتفظون بحياتهم لأنفسهم، ويرفضون أن يُختزل حضورهم في مربع صغير على شاشة.

تحية لأولئك الذين ما زالوا يعيشون الحياة بعيداً عن الفلاتر والقوالب وضوء العدسة. لأولئك الذين ما زالوا يحتفظون بأحاديثهم الخاصة خارج البثّ المباشر، بضحكاتهم غير المعلّبة، وملامحهم غير الكرتونية. لأولئك الذين لا يُعيدون صياغة أحاديثهم لتناسب جمهوراً افتراضياً. للذين لم يفرغوا ذواتهم كي تُعبئهم أعداد المتابعين والإعجابات والتعليقات.

تحيةً لمن يعيشون اللحظة دون قلقٍ من غياب عدسة، ولا هوسٍ بلقطة مناسبة للنشر. لمن يختارون الاستمتاع بالحياة لا استعراضها. لمن يعيش المشهد بدل أن يصنعه ويشاركه، لمن اختار أن يستمتع بالحياة، لا أن ينتج عرضاً لإمتاع غيره.

أن تسير في الاتجاه المعاكس، في زمن يتزاحم فيه الجميع للسباق على الطرف الآخر، هو قرار شجاع. أن تحمي خصوصيتك، أن ترفض تحويل تجاربك إلى مشاهد، أن تختار الصمت في عالمٍ يصرخ: "شارك"... هو نوع نادر من النُبل.

شكراً لأنكم لم تنساقوا خلف وَهْم التأثير المُضلل، ولأنكم تهتمون بالجوهر وتتجاهلون القشور، وتفضلون هدوء النفس على ضجيج افتراضيّ. أنتم، ببساطة؛ الضوء الحقيقي الذي لا يحتاج عدسة ليثبت وجوده.

تذكروا... أنتم الأثر النقي الثابت في زمن التصنّع والزيف.