من يقرأ تأريخنا العربي الاسلامي منذ وفاة الرسول الكريم، سيجد اننا لم نتعظ ولم نتغير ولم نحاول التعرف على أخطائنا نا هيك عن تقويمها. انظروا الى ما يحصل حاليا فى العراق من قتل ودمار وأعمال تتقزز منها الأنفس الأبية ويندى لها جبين الانسانية. قد لا يجد القارىء جديدا فى هذه الأسطر، ولكنى أوجزت ما استطعت من حقبة من تأريخنا منذ بدء الحكم العباسي وسقوط بغداد الأول على أيدي المغول والسقوط الثاني على أيدى البريطانيين. وكل ما أرجوه هو أن أكون قد أفدت القراء الكرام الذين لا يجدون وقتا لقراءة هذا التأريخ، وبينت حقائق لم تكن واضحة كل الوضوح للعيان.
بداية النهاية
لم يكن سقوط بغداد والخلافة العباسية فى عام 1258 ميلادية حدثا فوريا، وانما بداية النهاية كانت عندما عهد هرون الرشيد بالخلافة الى أبنائه الثلاثة بعد موته فى 809 ميلادية وهم:
محمد الأمين: وهو من ام عربية قرشية
عبدالله المأمون: من أم فارسية
محمد المعتصم: من أم تركية
وانحاز كل منهم الى أخواله، فكان ذلك ايذانا ببدء الاضطرابات بين القوميات الثلاث اضافة الى النزاعات الطائفية التى أخذت بالاشتداد فى عهد الحكم البويهي الذى بدأ عام 944 ميلادية، مما سهل للمغول اجتياح بغداد فى عام 1258 ميلادية وانهاء الحكم العباسي.
قصص ألف ليلة وليلة أضفت هالة سحرية على هرون الرشيد، حتى وصف عهده بالعهد الزاهر، مع انه كان عهد حروب وخلافات. ومنها قتله للامام موسى الكاظم بتحريض من البرامكة، ثم عاد وأمعن بقتل البرامكة السنة الفرس. وكان قبله جده المنصور قد حبس الامام أبا حنيفة النعمان حتى مات فى الحبس.
وقتل المأمون أخاه الأمين الذى خلع اخوته من ولاية العهد وجعلها فى ابنه الصبي موسى. وبعد مقتل الأمين أخذ نجم العرب بالأفول وأصبح لهم منذ ذلك الحين دور ثانوي فى شئون الامبراطورية. جعل المأمون مذهب المعتزلة دين الدولة الرسمي، وعلى حين غرة نادى بالامام الشيعي الثامن (علي الرضا) وليا لعهده، وأحدث هذا اضطرابا فى أحاسيس الناس، وكانت وفاة الامام الرضا الفجائية خاتمة لذلك. وحاول قتل الامام أحمد بن حنبل ولكنه مات وآلت الخلافة الى المعتصم الذى حبسه 28 شهرا. وبانتهاء خلافة الواثق بن المعتصم انتهى العهد العباسي الأزهر، وبدأ عهد الانحلال فى خلافة المتوكل على الله بن المعتصم.
الانحلال وسيطرة الأتراك
وقد سار المتوكل على منوال جده هارون الرشيد فيما يخص ولاية العهد من بعده، حيث عهد بالخلافة لأولاده الثلاثة وهم المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد. كان عهده بداية ضعف الدولة العباسية وانحلالها، وانغمس المتوكل فى الملذات، وكان لا يخرج من سكرة حتى يدخل فى اخرى، وقيل انه كانت عنده أربعة آلاف جارية. وكان شديد العداء للشيعة فأمر بهدم قبر الامام الحسين. وبالاضافة للشيعة فقد قاست منه المعتزلة والنصارى واليهود، وقام جماعة الامام أحمد بن حنبل باشاعة الرعب والهلع فى بغداد. وهكذا انتهى عهد التسامح وبدأت قصة جديدة من قصص التعصب الديني وفرقه. ولم يستطع المتوكل تصريف الشئون العامة وتركها للأتراك. وأخيرا قرر المتوكل عزل ابنه المنتصر عن ولاية العهد مرضاة لأمه، فاتفق المنتصر مع الأتراك وقتلوا أباه المتوكل شر قتلة، وقتلوا معه وزيره الفتح بن خاقان.
جلس المعتز بالله بن المتوكل على كرسي الخلافة بعد أن أجبر سلفه المستعين بالله على خلع نفسه، و أصبح العوبة بيد الأتراك، وكما فعل أسلافه فقد عادى الشيعة، وأمر بقتل الهادي الامام الشيعي العاشر، فقتل مسموما. ثم حصل له خلاف مع الأتراك الذين سلبوه كل سلطاته، فقتلوه شر قتلة بعد تعذيب شديد.
وبعد ذلك قتل الأتراك المتحكمون بالسلطة الخليفة المهتدي بن الواثق بن المعتصم، وذلك قبيل عودة الخلافة من سامراء الى بغداد عام 892 ميلادية.
بعد ذلك قتل كل من الخلفاء: المعتمد على الله بن المعتصم عام 870 ميلادية، والمقتدر بالله قطع رأسه عام 908 ميلادية، وفى زمانه هدمت السلطة جامع براثا الشيعي وشيد مكانه مسجد سني. وفى زمانه أيضا مات الطبري المؤرخ الكبير، ومع انه كان سني المذهب فان الحنابلة رفضوا السماح بتشييع جثمانه بحجة انه لم يذكر اسم أحمد بن حنبل فى تعليقاته الدينية فاضطر أصحابه الى دفنه سرا فى فحمة الليل. وبلغت قوة الحنابلة آنذاك أنهم أسسوا ما يشبه محاكم التفتيش، وأصدروا ونفذوا أحكام الموت قتلا وحرقا بحق من شاء سوء طالعه أن يقع فى ايديهم من الشيعة، وأصدر الخليفة بيانا يجدب فيه هذه الأعمال، ولكن بيانه ذهب كصيحة فى واد.
وقتل أيضا القاهر بالله عام 932 ميلادية، والمتقي لله عام 944 ميلادية سملت عيناه وخلع، والمستكفي بالله سملت عيناه وخلع فى عام 946 ميلادية بعد دخول أحمد بن بويه بغداد (سمل العيون طريقة تركية للتخلص من بعض الخلفاء، اذ لا يجوز شرعا ان يكون الخليفة فاقدا للبصر).
(تراجع صفحة 128-152 من الجزء الأول من كتاب: بغداد مدينة السلام، تأليف رتشارد كوك، ترجمه وعلق عليه الأستاذ فؤاد جميل والدكتور مصطفى جواد، طبعة عام 1962).
الدولة البويهية (946-1055م)
دخل البويهيون، وهم من الشيعة الزيدية، وأصلهم من الديلم (ايران) وكانوا وثنيين وأسلموا على يد الحسن الزيدي العلوي، دخلوا بغداد محتلين فى عام 946 ميلادية بقيادة أحمد بن بويه، الذى كرمه الخليفة المستكفى بلقب (معز الدولة)، وسرعان ما حام الشك حول المستكفى وظنوا انه يؤامر بالسلطة الجديدة، فلذلك خلعوه وسملوا عينيه، وخلفه المطيع لله. وزاد مجيء البويهيين من حدة الاختلافات الدينية وبدخولهم دخلت معهم طقوس دينية لم يعرفها الشيعة العراقيون من قبل، مثل اقامة المواكب الحسينية وتخليد ذكرى العاشر من محرم. و بدأت الخلافات بين السنة والشيعة تأخذ مجرى العنف، حيث أحرق السنة عام 1051 (أواخر أيام البويهيين) مشهد الكاظمين وسرقت محتوياته من النفائس بعد ان أمرالأميرالبويهي أبو نصر (الملك الرحيم) بأن توضع على ابواب المساجد مسبة شيعية لأهل السنة، وسرعان ما عمدت جموع الناس الى تمزيقها واضطر الى ان يضع مكانها رمزا آخرا أقل من الأول شأنا. واستطاع أهل السنة فى أحد الاصطدامات ان يستولوا على اسواق الكرخ بعد ان هاجموا محلات الشيعة بقيادة امرأة تركب جملا، تقليدا لمعركة الجمل. والملاحظ انه كلما تدخل الشرطة البويهيون فى عراك الطائفتين تجدهما يتحدان ويهاجمان الشرطة معا. بقي نظام الخلافة على ما كان عليه، فقد حل البويهيون محل الأتراك الذين سلبوا الخلفاء كل سلطاتهم، وانشغل الخلفاء ببناء القصور وانغمسوا باللهو والطرب، واصبح الخليفة جليس قصوره التريفة وجناته الوريقة، وهو رهن اشارة كل بويهي يقدر له ان يكون سيد الحال ببغداد. وكان البويهيون أنفسهم قدوة سيئة فى التبذير واهمال أمر الواردات.
وشهدت السنوات العشرون الأولى من خلافة القائم بأمر الله انهيار سطوة البويهيين نهائيا، ولقد قضى عليها ببغداد مملوك تركي سابق وأجبر الخليفة على نوط شئون المدينة به، فقام الخليفة بالاتصال سرا ب(طغرل بك) رئيس الاتراك السلاجقة الذى دخل بغداد وانهى حكم البويهيين فيها.
العهد السلجوقي (1055-1152م)
لم يكن سلطان الخليفة الفعلي فى عصر السلاجقة بأكبر مما كان عليه أيام البويهيين، ومع ذلك فلقد كانت الصلات بين الخلافة والسلطنة السلجوقية حسنة، وقامت بينهما مصاهرة مرات عدة. وجاءت سنة 1096م وجاءت معها الحملة الصليبية الأولى، وسقطت أنطاكيا وطرابلس وصور وصيدا والقدس التى انهكت الفتن الداخلية الدائمة قواها. ووصلت الدفعة الاولى من اللاجئين الى بغداد خلال شهر رمضان، ولم يكن للخليفة المستظهر بالله فى ذلك الحين من الجند والعتاد ما يستطيع بهما شن حرب واسعة، فأنفذ ثلاثة من وجهاء الدولة الى السلاطين السلاجقة، ولم يسفر عن ذلك شيء خطير، ولم يتحرك من بغداد جيش ما. وحل الوئام والوفاق بين أهل السنة والشيعة خلال هذا العهد. ولم تكن الحياة فى بغداد محببة رضية، فالأمن يكاد يكون مفقودا. وشهد عصر الخليفة المسترشد بالله العباسي نشاطا عسكريا عظيما، ولكنه فيما بعد هزم على يد السلجوقي مسعود بن محمد بن ملك شاه سنة 1135م.
وبلغ الصراع بين السلاجقة والخلفاء ذروته فى مطلع سنة 1152م عندما زحف السلطان محمود السلجوقي على العراق لاخضاع الخليفة، فتحصن الخليفة المقتفي لأمر الله فى بغداد الشرقية، ودام الحصار ثلاثة أشهر وقرر السلطان على حين غرة ان يرفع الحصار ويعود الى بلاد فارس، وانتهى بذلك حكم السلاجقة فى العراق.
آخر أدوار العهد العباسي
دام حكم المقتفي 25 عاما، خلفه ابنه المستنجد بالله، الذى اتبع سياسة سداها السلفية الصارمة وأمر الناس فأشعلوا النار فى خزانة كتب كبيرة تضم مؤلفات فلسفية قيل ان فيها زندقة، ومات سنة 1170م، وخلفه ابنه المستضيء بأمر الله الذى دام حكمه 9 سنوات. وتحسنت الأوضاع بعض الشيء على عهده، وخلفه ابنه الناصر لدين الله الذى حكم 45 سنة من 1180 الى 1225م. وعلى عهده ازدادت سطوة الخليفة سياسيا وكان نفوذ كلمته شاملا وسائدا جميع الأقطار العربية والأقطار الاسلامية ما عدا دولة الموحدين فى المغرب وبعض الأندلس، وجدد الباطنية الاسماعيلية الحشيشية اسلامهم على يديه. وأخلد العراق فى حكم الناصر الى حياة سلم ودعة نوعا ما.
أقلق بال الخليفة الى حد ما نماء قوة الخوارزمية فى ايران، فقد هجم محمد الخوارزمي على العراق ولكن جيش الخليفة صده واضطره للعودة من حيث أتى. ولاح شبح المغول فى الأفق وأصبح الناصر لا يخشى الخوارزمية الا قليلا. وبعد موت الناصرخلفه ابنه الظاهربأمر الله الذى توفي بعد أقل من سنة وخلفه ابنه المستنصر بالله الذى اشتهر ببناء المدرسة المستنصرية العظمى. وكان هناك شيء من الرخاء الظاهري يسود أرض الخلافة، ثم تراءت فى الأفق سحابة سرعان ما غشيت نصف العالم، وسرعان ما أصبحت بغداد وحضارة الشرق الأوسط كله خرابا.
الطوفان المغولي
بعد ثلاث سنوات من اعتلاء المستنصر بالله العرش مات جنكيز خان القائد المغولي، وحل محله ابنه (تولوي) والد هولاكو الذى كتب لبغداد ان تمنى بضربة قاصمة من يديه.
خاب مسعى جلال الدين ملك خوارزم فى توحيد امبراطوريته مع أمراء فارس فاكتسح المغول أرياف الفرس وانحدروا تلقاء العراق فاستولوا على الموصل وماردين ونصيبين. ثم عادوا وظهروا فى السنة الثالثة فانقضوا على (أربيل) فاتخذت بغداد وضع الدفاع بازائهم. وعلى الرغم من ذلك استطاعت قوات الخليفة أن تهاجم الغزاة وتهزمهم فى جبل حمرين. واستمرت الغزوات منذ سنة 1238م. وذكر مؤلف كتاب الحوادث فى حوادث سنة 1245م ان المغول وصلوا الى بغداد وعادوا بعد ان هاجموا خانقين وأوقعوا بالتركمان الايواقية ونهبوا ضواحى بعقوبا وقتلوا من أهلها. وفى سنة 1249م وصلت طائفة من المغول وكبسوا قصر شيرين وما يجاوره وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة ونهبوا البقروالغنم وغير ذلك، وقتلوا فى (طاووق) خلقا كثيرا وارتكبوا الفاحشة بالنساء والصبيان. وفى السنة التالية وصلوا الى أهل الجبال وأوقعوا بالأكراد.
الزحف على بغداد
وهكذا سار الجيش المغولي نفسه قدما، يريد خليفة بغداد وعاصمته، وفرضوا عليه جزية مضافا الى ما حصلوا عليه من هدايا. وقد أرسل اليهم الخليفة هدايا كثيرة، فضلا عن الجزية المفروضة عليه، ورجا منهم ان يشملوه بعطفهم. وعلى الرغم من ذلك فالامبراطور التتري تسلم جميع الهدايا وطلب من الخليفة الشخوص اليه.
ثم تقرر ارسال حملتين احدهما الى الصين بقيادة (قوبلاي) والأخرى الى الحشيشيين والخليفة، بقيادة هولاكو وهو أخو قوبلاي وأصغر منه بسنتين اثنتين.
بعد ان اكتسح هولاكو الحشيشيين فى أواسط سنة 1257 وخرب معاقلهم، سار بعد ذلك الى همذان حيث استراح الجيش واعيد تجهيزه، وأرسل الرسل الى الخليفة وطلب منه الاذعان بغير تلكؤ، ويذكره باكتساح المغول بلاد ملوك خوارزم والأتراك والسلاجقة والديلم والأتابكة، فلماذا تبقى أبواب بغداد دونهم موصدة؟
انتهى الجزء الأول وسيتبعها الجزء الثاني الذى سيدور حول: سقوط بغداد بيد المغول، وحكم الايلخانيين والجلائريين،وأسرة قراقوينلو، واسرة آق قوينلو، والصفويين، واسرة كلهر الكردية، والأتراك العثمانيين، وصولا الى الاحتلال البريطاني للعراق سنة ألف وتسعمئة وسبعة عشر.
عاطف العزي
المصادر الرئيسة: بغداد مدينة السلام: ريتشار كوك و ترجمة فؤاد جميل وتقديم وتعليق العلامة الراحل الدكتور مصطفى جواد
دليل خارطة بغداد: الدكتور مصطفى جواد وأحمد سوسة
موسوعة وكيبيديا
التعليقات