الأوضاع السائدة في المناطق الفلسطينية لا تشرف أحدا في سلطة محمود عباس أو في حكومة إسماعيل هنية، فالسلطة منذ ما يزيد على ثلاثة سنوات والحكومة منذ حوالي سبعة شهور، أصبحتا مجرد موظفين يداومون في المكاتب بدون حول أو قوة إلا في المناكفات الداخلية التي أسميتها سابقا (حروب فتح وحماس)، التي وصلت قبل شهور قليلة إلى استعمال السلاح وسقط فيها قتلى وجرحى من الطرفين. ومنذ تشكيل حكومة حماس، انشغل البيت الفلسطيني بمسألتي الحصار الاقتصادي المعلن من غالبية الدول الذي أدى إلى توقف دفع الرواتب منذ ستة شهور، وما أطلق عليه (وثيقة الأسرى)حينا و وثيقة الوفاق الوطني حينا آخر، بقصد تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كافة التنظيمات والفعاليات السياسية بديلا لحكومة حماس، وما إن أعلن عن الاتفاق حول ذلك حتى تمت عملية أسر الجندي الإسرائيلي في توقيت تحوم حوله الشكوك، لأنه أوقف كل الاتصالات حول هذه الوثيقة،وأدخل البيت الفلسطيني في حالة جمود لا يقدم خلاله مسؤولو السلطة والحكومة سوى التصريحات والظهور على شاشات الفضائيات ومنابر المساجد في قطاع غزة تحديدا، مما جعل البعض يرى أن حماس تعيد خلق التجربة الإيرانية الخاصة باستعمال منابر المساجد للدعاية لبرنامجها ومواقفها السياسية بما فيه أزمة الرواتب، ومنابر المساجد ليست هذه مهمتها، خاصة بعد أن أصبح شبه برنامج اسبوعي أن يلقي إسماعيل هنية خطبة الجمعة في مسجد وقياديون آخرون من حماس في مساجد أخرى!.
ورغم هذه الأوضاع الصعبة التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى وضع لا أعتقد أنه شهد مثل صعوبته ومرارته طوال الستين عاما الماضية، إلا أن البعض لم يتوقفوا عن إطلاق العديد من أعمال المسخرة التي تسيء لنضال الشعب الفلسطيني عربيا ودوليا، ومن أهم إنجازات المسخرة هذه:
أولا: الإعلان عن تشكيل (المجلس الشيعي الأعلى في فلسطين)بتوقيع (محمد غوانمة)، معلنا سماحته (أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ركيزة المشروع الإسلامي العالمي على طريق إقامة خلافة إسلامية راشدة وعاصمتها القدس الشريف). وأعلن سماحته (أنه اعتنق المذهب الشيعي عام 1979 وبقي متكتما على ذلك حتى عام 1995 وأنه عمل أربعة سنوات مرافقا لفتحي الشقاقي مسؤول حركة الجهاد الإسلامي الذي اغتيل عام 1996 في مالطة عقب مغادرته ليبيا. وفجأة تم توزيع صور في الشوارع الفلسطينية لرمضان شلح المسؤول الحالي لحركة الجهاد وهو يقبل يد على خامئني المرشد الإيراني، وهذا ما جعل العديدين يعتبرون أن إعلان تأسيس المجلس الشيعي في فلسطين له علاقة بحركة الجهاد وأنه محاولة لتأسيس امتداد إيراني في فلسطين.
ثانيا: قيام مجموعة جديدة أطلقت على نفسها اسم (كتائب الجهاد المقدس) بخطف صحفيين أمريكي ونيوزيلندي يعملان لشبكة (فوكس نيوز) لمدة اثني عشر يوما، وستدخل مسخرتهم هذه موسوعة جينز في مستوى حماقتها وإساءاتها للشعب الفلسطيني، من خلال مطالبهم للإفراج عنهما وهي الإفراج عن المعتقلين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية!!!أي أن هذه العصابة المجرمة التي تستعمل اسما إسلاميا، لا تفكر في حوالي عشرة ألاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، ولا في ستين أسيرا من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني والحكومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس. ولدخول موسوعة جينز بجدارة في عالم العصابات أذاعوا شريطا فضائيا أجبروا فيه الصحفيين على إعلان اعتناقهما الإسلام ، كما أعلن الصحفيان بعد الإفراج عنهما أنهما اضطرا لذلك تحت تهديد القتل بالسلاح . ومما يزيد الإدانة أنه بعد الإفراج عن الصحفيين المخطوفين، أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، أن الخاطفين لا ينتمون للقاعدة ولا لأي تنظيم معروف !!. ولماذا سكوته ووزير داخليته على هذا العمل، ولماذا لم يتم اعتقال الخاطفين وتقديمهم للمحاكمة بسبب هذه الإساءات للشعب الفلسطيني؟؟. خاصة أنهم أصبحوا معروفين له و لأجهزة الأمن!.وكيف سينظر العالم أو على الأقل حكومات المخطوفين لحكومة فلسطينية تسكت على هكذا جرائم وتترك المجرمين بدون عقاب، مما يعني تكرار هذه الجرائم، بدليل أن هذه ليست أول عملية خطف أجانب تتم في المناطق الفلسطينية، وأمام هذا التهاون لن تكون الأخيرة.
ثالثا: خروج حزب التحرير يوم الجمعة الماضية بمظاهرات صاخبة في مدينتي الخليل و رام الله ، داعين إلى بعث وإقامة الخلافة الإسلامية، وكان قد سبق ذلك مظاهرات حاشدة في قطاع غزة، رافعين فيها رايات الحزب السوداء، متوجهين إلى ساحة المنارة في رام الله حيث أعلنوا للمسلمين كافة (أن حزب التحرير يبشر بأن الخلافة الإسلامية أصبحت على مرمى حجر وأنها أقرب من رد الطرف)!!. طبعا من لحظة هذا الإعلان التهريجي ارتدت أطراف عيون مليار من المسلمين عدة مليارات من المرات دون أن نرى قيام الخلافة!!.
رابعا: أما قمة المساخر فهي الفلتان الأمني الذي كان في زمن حكومة فتح وما زال مستمرا في زمن حكومة حماس فلا وجود لأية أجهزة أمن أو شرطة، ولا نبالغ إذا قلنا أن المناطق الفلسطينية خاصة قطاع غزة لا يأمن أي مواطن فيه على حياته، ولأتفه الأسباب تندلع معارك فردية وعشائرية أشد من المواجهات مع جيش الاحتلال، وظاهرة القتل والإعدام في الشوارع وأمام المساجد من المناظر العادية، دون أن تتمكن أية حكومة أو وزارة من مجرد التحقيق فيها، فالكل شعاره (ابعد عن الشر وغني له)، و إلا هل من المعقول إعدام مواطنين علنا في الشوارع دون أن تعتقل أجهزة الأمن القائمين بهذه الأعمال؟. لذلك فعشرات عمليات القتل طالت بعضها ألوية وعمداء وعقداء في أجهزة الأمن والمخابرات وصحفيين وكتاب دون اعتقال أو محاكمة أيا من القتلة.
ما هي أبعاد المشكلة؟
هذه الأوضاع المأساوية التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، ليست بسبب الاحتلال الإسرائيلي فقط، رغم أن مسؤولية الاحتلال وحصاره وجرائمه لا يمكن تجاوزها، إلا أن الأسباب الفلسطينية الداخلية تتحمل مسؤولية عالية أيضا في جانبين أساسين:
الأول: الصراع الفتحاوي الحماسي بعد تشكيل حكومة حماس، فمن الصعب على حركة فتح بعد سيطرة ونفوذ دام أربعة عقود، أن تعترف وتقبل أن تنتقل السيادة والسيطرة والنفوذ لحركة حماس التي لا يزيد عمرها في الشارع الفلسطيني عن عشرين عاما. ومن أوجه الصراع سياسيا أنه أصبح المجتمع الفلسطيني يقوده رأسان متناقضان سياسيا، فالسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس (فتح) تعترف بدولة إسرائيل و بينهما العديد من الاتفاقيات أيا كان مستوى التزام إسرائيل بها، والحكومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس (إسماعيل هنية) ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل، وهذا من الحالات النادرة في تاريخ الشعوب، أن تكون الرئاسة والحكومة متناقضتين في الأجندة السياسية.
الثاني: التذبذب وعدم الوضوح في الخط السياسي لحكومة حماس، فهي ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل وتطرح في الوقت ذاته هدنة لمدة خمسين أو ستين سنة،وقبل أسابيع يعلن عن الاتفاق على وثيقة الأسرى التي تنص على الاعتراف بإسرائيل، وتضيع المسألة في غموض جديد بسبب قضية خطف الجندي الإسرائيلي والحرب في لبنان، دون معرفة حقيقة أمر هذا الاتفاق الذي تم نسيانه وسط الحديث عن حكومة تكنوقراط حينا وحكومة وحدة وطنية حينا ثانيا وحكومة ائتلاف وطني حينا ثالثا وحكومة إنقاذ وطني حينا رابعا، و إذا المسألة من غموض إلى استفزاز عبر تصريح إسماعيل هنية أن حركة حماس لن توافق على حكومة وحدة وطنية قبل الإفراج عن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وكأن هؤلاء الأسرى والمعتقلين في سجون تابعة لحركة فتح والسلطة الفلسطينية ، ومفاتيح السجون في أدراج مكتب محمود عباس، وضمن نفس تخبط حماس يزداد الحديث عن الخلافات بين حماس الداخل (حكومة هنية) و حماس الخارج (خالد مشعل)، وهناك العديد من الشواهد على هذا الخلاف منها مشاركة كتائب عزالدين القسام الجناح العسكري لحماس في عملية أسر الجندي الإسرائيلي، في حين أن حماس تشكل الحكومة ووزير الداخلية من قيادتها لا يعرف شيئا عن العملية كما يعلنون، ويقدمون للشعب الفلسطيني مجموعة جديدة باسم (جيش الإسلام) شاركت في عملية الأسر.
ما الحل؟
من وجهة نظري وهي اجتهاد كاتب غير ملزم لأحد ومن الجائز أن يحتمل الخطأ أو الصواب، أن الحل يكمن في أن تحسم حركة حماس أمرها بشكل واضح لا لبس ولا غموض ولا اجتهاد فيه، لتقرر هل هي قادرة على الاعتراف بدولة إسرائيل كما هي السلطة الفلسطينية، عندئذ يزول التناقض في الأجندة السياسية ، ويصبح من السهل تشكيل حكومة وحدة وطنية بشرط عدم اشتراطات من أي تنظيم طالما الأجندة السياسية واحدة ، أو أنها لا يمكن أن تعترف بدولة إسرائيل وعندئذ عليها أن تترك الحكومة فالسياسة والمقاومة في الحالة الفلسطينية تحديدا لا يلتقيان. رغم أن هذا لا يحل المشكلة ، فعندئذ يعود المجتمع الفلسطيني للحالة التي كانت سائدة قبل فوز حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة، حيث سلطة معترفة بإسرائيل وحركة حماس وغيرها يقوم بعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي من حين إلى آخر، والسلطة تدين العمليات وتقف متفرجة على الموت والصراع في الشارع الفلسطيني . وأرى من وجهة نظري غير الملزمة أيضا ، أنه لمصلحة الشعب الفلسطيني أن تعترف حكومة حماس بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، أي الاعتراف بدولة إسرائيل مع ضمان قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 بما فيها القدس، وهذا ينسجم مع قرارات المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 والمبادرة العربية عام 2002 في قمة بيروت. إن من شأن موافقة حكومة حماس هذه، أن تسحب مقولة إسرائيل بعدم وجود شريك فلسطيني في مباحثات السلام التي من خلالها تقوم بكل تعدياتها وتكسب تأييدا دوليا متنوعا، وفي الوقت ذاته تكشف أن من يماطل في عملية تحقيق السلام هي دولة إسرائيل، وأنا متأكد أن إسرائيل لن تقبل بالسلام العادل حسب قرارت الشرعية الدولية المنصوص عليها في قرار 242 ، بدليل مماطلتها من عام 1993 تاريخ توقيع اتفاقية أوسلو التي لو نفذت إسرائيل التزاماتها المنصوص عليها فيها، لتم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية عام 2005 ....وعندئذ يكون إعلان حماس المشار إليه، قد أثبت للعالم المؤيد لإسرائيل والمعارض لها، أن الدولة الإسرائيلية هي من ترفض السلام المنصوص عليه في قرارات الأمم المتحدة، وعندئذ فلتتحمل دول العالم مسؤولياتها إزاء هذا الاحتلال...فهل تقدم الحكومة الفلسطينية بقيادة حماس على هذه الخطوة؟.
[email protected]
التعليقات