مدننا لا تشبه النساء كما يحلو للشعراء أن يصفوا المدن، لكنها تشبه سلاطيننا، إذ يقف وراء كليهما ـ المدن والسلاطين ـ تراث مشترك، فبقدر ترهل السلطة أو نضارتها تتشكل ملامح المدن، هذا بعض مما كنت أفكر به وأنا أزور قبر عزيز اعتدت زيارته كلما سنحت لي الظروف، حينها تناهى إلى سمعي ـ ربما من سكان مقبرة مجاورة ـ صوت شعبان عبد الرحيم. ولا أدري لماذا ظلت صورة quot;شعبولاquot; تلاحقني طيلة طريق العودة من المقابر، التي لم تعد مثوى للأموات وحدهم، بل زاحمهم فيها الأحياء منذ عقود، حتى استقرت الأوضاع، وتمت عملية quot;تطبيعquot; بين الأحياء والأموات، وأصبح هناك جيل كامل من مواليد المقابر، الذين نشأوا وترعرعوا فيها مدشنين quot;ثقافة القرافاتquot;.
حين داهمني وجه quot;شعبولاquot; راودتني نفسي الأمارة بالسوء لمقارنته بنجوم مثل أحمد مظهر وعبدالحليم حافظ، ورشدي أباظة، وشكري سرحان، وتساءلت: لماذا توقفت القاهرة عن إنتاج هذا الطراز من الأيقونات النبيلة، بينما تُباهي بنموذج quot;شعبولاquot; في التلفزيون والسينما والمسرح والحفلات الخاصة والعامة، وفي الصحف والسيارات والمتاجر وحتى المقابر.
باختصار. جرت عملية quot;شعبلة كاملةquot; للقاهرة، فالناس على هوى مطربيهم، لهذا صار هناك شباب quot;شعبولاتquot;، وصحفيون quot;شعبولاتquot;. ومطربون وممثلون وأطباء وحتى وزراء quot;شعبولاتquot;. وتشعبلت الشوارع والحارات، والنساء والحدائق. باختصار صارت quot;الشعبلةquot; قانوناً وسلوكاً وفناً وصحافة وسياسة وأسلوب حياة كامل.
والدرس الأول في quot;الشعبلةquot;، أن يتمتع quot;المتشعبلquot; بقدر من التبجح يضاهي ذلك الذي يبديه شعبولا في حوارته الصحفية والمتلفزة، فالرجل يفاخر بذوقه الفج في الملابس ذات الألوان الصارخة ولا يشعر بالخجل لأنه أميّ، ومع ذلك صار نموذجاً يقلده أبناء الطبقة الجديدة.
بهذه التضاريس النفسية وتلك الذائقة، يكون المرء خطا خطوته الأولى صوب quot;الشعبلةquot;، وليس عليه بعد ذلك، سوى أن يتفاعل بتلقائية مع مظاهر quot;الشعبلةquot;، التي باتت تحاصر المصريين وعليه ألا يكترث بالمنطق. أي منطق، فمن سمات quot;الشعبلةquot; التعايش مع العبث.
زارني في القاهرة مؤخراً صديق عربي مهاجر في أوروبا منذ عقود. تعلم بالقاهرة أيام صباها وتألقها، وسار في مظاهرات جامعاتها ودخل سجونها وأدمن مقاهيها، واكتوى بحب صبية من بنات حاراتها، وهاهو يعود إلى المدينة التي شهدت أجمل سنوات شبابه. متوقعاً رؤية شوارعها مزدحمة بنساء يتبخترن بجرأة تحية كاريوكا، ودلال هند رستم وفتنة كاميليا، وضحكات شمس البارودي المشروقة قبل أن تصبح quot;تائبةquot;.
لكن ظنه خاب لحد الصدمة، فبعد هذه السنوات على رحيله، عاد ليجد سلسلة من المشاهد الكئيبة، فلا نساء في الخارج سوى ربّات بيوت يزددن ترهلاً وقهراً ولا أحد يحترم أي قانون بدءاً بقوانين النظافة. وليس انتهاء بقواعد المرور، وبينما كنا نجلس في مقهى quot;جروبيquot; بناء على تصوره التاريخي للمكان، لمحنا ثلاث فتيات صامتات ينصتن برهبة لحديث الرجال الجالسين معهم، سألني الضيف عما جرى للقاهرة فتزاحمت في رأسي الأفكار والكلمات، وكنت متعباً من فرط الحديث، ففضلت الجواب باختصار قائلاً إنها quot;تشعبلتquot;.
يتحرك سكان القاهرة بمهارة لاعبي السيرك وسط طوفان من السيارات المتدفقة والحافلات المكدسة. والمتناقضات الدراماتيكية التي بلغت من العبثية حد quot;الشعبلةquot;. فالانتقال بين أثنين من أحياء القاهرة قد يأخذ المرء من عالم إلى آخر، في رحلة فوق الكباري العلوية، وتحت الأنفاق السفلية، وبين أبراج سكنية ضخمة بلا ملامح. ومقاه عشوائية تحمل أسماء أجنبية، وديسكوهات يرقص فيها شباب quot;روش طحنquot; وآخرون quot;بيئةquot; على إيقاعات صاخبة، بينما هناك آخرون ملتحون يرتدون جلاليب غريبة، ويسيرون أمام سيدات محجبات أو منتقبات في طريقهن إلى quot;درسquot; بمسجد يبثه عبر مكبرات صوت يسمعها الحي كله بالإكراه.
يُجبر المرء على الخوض وسط أكوام القمامة، بينما ينهمك المارة في الحديث عبر الهواتف النقالة، ووسط فوضى المرور العارمة، يبدو quot;أطفال المرورquot; من المجندين عاجزين لحد يثير الشفقة، فالأرصفة تحتلها السيارات وأكشاك الباعة، والمشاة لا يجدون أماكن للسير، وإذا وجدوها فان أحداً لا يوليها أدنى اهتمام، فيما أضواء السيارات المبهرة المفزعة تُستخدم بشكل quot;شعبولائيquot; فج، وسائقو الحافلات العامة مرهقون محبطون مستفزون، يضيقون بالركاب لحد الكراهية ويشتمون المارة بسبب ودون سبب ويلعنون الحياة، ويستعينون عليها بالمخدرات وأشرطة quot;شعبولاquot;.
في طريق عودتي كان محمد قنديل يشدو عبر مذياع السيارة:
هاتوا لجميل الأوصاف حلق بدلايه
فوق الخدود رفاف يحكي الهوا معايه
استدعت هذه الكلمات صور نعيمة عاكف وتحية كاريوكا وشادية. فلامست نعومة quot;الملاية اللفquot; واستنشقت رائحة quot;ماء الوردquot;، واشتهيت صحناً من quot;القطايفquot; وكوب شاي أخضر.
أعادتني هذه الأجواء لأفلام الخمسينات والستينات وحفلات ثومة وحليم، وتساءلت: لماذا كانت تظهر المصرية حينذاك بكامل زينتها مزهوة برشاقتها وانوثتها، بينما تسير المرأة اليوم متعثرة مضطربة تستند على أقرب جدار، تنّز عرقاً من الحرارة والرطوبة الخانقة تحت وطأة ملابس تستر أجساداً نفخها طعام سيئ، وترهلت بفعل إنجاب متكرر، وإيقاع منهك، وحياة تحفل بصنوف شتى من الأمراض والمرارت، تمضي سنوات منها على مقعد أمام شاشات تحتفي باستضافة الدعاة الجدد من فصيلة quot;عمرو خالدquot; وصحبه الغر الميامين، الذين يشكلون ظاهرة quot;شعبوليةquot; في أوساط الدعوة والدعاة ربما تستحق مرثية أخرى.