ستة عقود توشك أن تمرّ على ولادة المأساة الفلسطينية. كمية كبيرة من الزمن سُفحَتْ وضاعت، ولم ينجز الفلسطينيون، خلالها، شيئاً ذا مردود حقيقي لإنهاء هذه المأساة. واليوم، يبدو حالهم، أصعب وأعقد مما مضى، بكثير. فكل يوم يطلع، يأتي بدمٍ مسفوح وضحايا جدد، ويُعاد إنتاج المأساة، على نحو أرعب وأكثر عبثية من أيّ خيال مجاني. طبعاً لن نخوض في الأسباب كلها التي تقف وراء ذلك، فذلك ما لا يستوعبه مقال، ولا حتى كتب. لكننا سنركّز على quot; مُسلّمة quot; سياسية تكاد تكون مسلمة ثقافية، شاعت بين الفلسطينيين المُحدثين، تقول باستحالة إيجاد حلول نهائية للصراع التاريخي، بيننا وبين إسرائيل، دون التعويل على العمق العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية. منذ عقود، وإبان انتشار ثقافة القوميين العرب في الإقليم، كان يُركَّز على العمق العربي، والآن، مع انتشار ثقافة وأدبيات الإسلام السياسي، عاد التركيز لينصبّ على العمقين معاً: العربي والإسلامي. هذه المسلّمة، منذ أن وجِدتْ، وحتى هذه اللحظة، لم تخضع للمساءلة والتمحيص النقدي. فالمسلّمات، وكما هو شأنها، في غير مكان من هذا العالم، لا تخضع عادةً للنقد، فما بالك في مكاننا الفلسطيني الذي ليس من تقاليده أن يُسائل أو يتساءل أو يُراجع لأخذ العبر؟ هذا ليس من طبعنا، وبالتالي: ليس من شأننا. بل هو شأن الناس الآخرين، شأن quot; الآخر quot; لا quot; الذات quot;، بكلمة.

المأساة الفلسطينية، التي طالت إلى حد الضجر، ما كان لها أن تكون على هذه الصورة القاتمة، لو انتبه الفلسطينيون، مبكراً، والنخبُ السياسية والثقافية منهم بالأخص وبالتحديد، لمصالح شعبهم، فرفعوها فوق كل المقولات والشعارات. فرغم كل تعقيدات الصراع الدموي في المنطقة، ورغم تعنت وشراسة إسرائيل، كان يمكن لهم أن يظفروا بحل معقول وعادل نسبياً، لو انتبهوا لأنفسهم، ولم يسلّموا مصيرهم لأيدي غيرهم، لكنهم بدل أن يفعلوا هذا، وبدل أن يغلّبوا الوطني على القومي، والوطني على الإسلامي، ذهبوا مع التيار، واستسلموا لكسلهم العقلي، ولموروثهم العاطفي، فدفع شعبهم كله، ثمن هذه الرؤية وهذا المنطلق.

لقد غاب عن الكل الفلسطيني تقريباً، إلا آحاد من مفكّريه، الدورُ التاريخي للنُخب، ووظيفتها في أن تصل quot; بالجماهيرquot; إلى برّ الأمان. ورغم أن هذه النخب، في حالتنا، ما زالت مفتونة بمقولة المثقف العضوي، المنخرط في هموم محيطه وبيئته، والحامل لآلامها وآمالها، إلا أن الحال الذي وصلنا إليه، يكذّب مزاعم هذه النخب، وينفي كل أوهامها واستيهاماتها.

فالجماهير الفلسطينية تزداد بؤساً فكرياً ومادياً، يوماً بعد يوم، وسنة وراء أخرى. بل تزداد قابلية للانجرار وراء سقط المتاع من الأفكار والطروحات العدمية. أما قضيتنا فصارت على هامش اهتمام العالم. وكل الكلام الذي يدور بيننا، هو كلامنا نحن نرسله لأنفسنا نحن، لا للآخرين. حتى صار حالنا أشبه بحال ذلك المتوحّد الذي يكلّم نفسه في العتمة.
لماذا؟ لأنّ نُخبنا السياسية والثقافية، في العموم، لم تقم بدورها ولا بوظيفتها التاريخية، كما يجب. ولأنّ هذه النخب، تفتقر إلى الشجاعة العقلية، في مواجهة الدهماء والغوغاء من شعبهم. فالدهماء هؤلاء، هم مَن أخذوا بأيديهم، مصيرَ هذا الشعب المعذّب، منذ ستة عقود تقريباً، وحتى يوم الناس هذا، فزادوه عذاباً على عذاب، ويأساً على يأس.
لقد نسيت النخبُ تلك، أن الغوغاء، بطبيعتهم، عدميون. وبطبيعتهم قصيرو البصر ومعدومو البصيرة. ولعل خطيئة هذه النخب، التي لا يجب أن تمر مرور الكرام، هي أنها (تماهت) مع هؤلاء، تحت ألف سبب وسبب، بل حدث ما هو أنكى: فبدل أن يقلّد الغوغاءُ النخبَ، صارت النخبُ هي التي تقلّد الغوغاء!

وخذوا عندكم: الشعر الفلسطيني، على سبيل التمثيل لا الحصر، ذهب إلى ثيمة أساسية وتقوقع حولها هي ثيمة الثأر. الشاعر، الذي يُفترض فيه أن يكون مثقفاً وصاحب رؤية ورؤى، إنسانية في المقام الأول، ذهب إلى أقبح ما في الموروث الصحراوي العربي، وهو قيمة الثأر، فطبعها بطابع القداسة، وأعاد إحياءها وضخ دماء جديدة في عروقها، وهو لا يدري، أنه بهذا الصنيع، إنما يذهب إلى الوجه الثاني من عملة عدوه: يخاطب عدوه بنفس لغة هذا العدو! مع أن الشعر، وإلا لمَ هو شعر، لا يحتمل هذه اللغة العسكريتارية من الأساس وبالبداهة. وتعقيباً على هذه النقطة بالذات، اسمحوا لي بأن أتذكر معكم، ما حدث خلال الحرب الأخيرة في لبنان، من زوبعة ثقافية عابرة: وأعني ذلك الشاعر الإسرائيلي اليساري الجذور، والذي ارتدّ، فكتب قصيدة تافهة فقيرة، لا توجد بها غير أفعال الأمر العسكرية، وكيف سخر منها بعض المثقفين الفلسطينيين، دون أن يخطر في بالهم، أن كثيرين من شعرائنا نحن، سبقوا هذا الشاعر التافه، وكتبوا بنفس لغته الهابطة، التي لا تستحق حتى مجرد عناء التعقيب. لمَ أقول هذا؟ أقوله فقط لأذكّر من ينسى رؤية عيوبه، بأن بيت بعضنا، أيضاً من زجاج. وبأنه، كما ترى عيوب عدوك، لا يجوز لك ألا ترى عيوبك أنت.

وثمة نقطة أخرى أيضاً بخصوص النخب الثقافية، وهي أنها التحقت بالنخب السياسية، وكانت بمثابة محلول تنظيف لخطاياها وجرائمها. ارتضت هذا الدور المتواضع، مقابل بضعة مصالح شخصية، واكتفت بذلك، على غرار ليس في الإمكان أبدع من هذا الدور: التماهي مع الزعيم، والاحتراب بسيفه، ثم التمتع بذهبه، ولا شيء أبعد.
أي بكلمة أخرى، تماهت نخبنا هذه، مع الدهماء، ثم مع الزعماء، أو العكس، فلا يهمّ حقيقة الترتيب، حتى صارت هي ذاتها، دهماء وغوغاء. فكيف لشعب بلا نخب أن يفلح في أعقد صراع تاريخي عرفه العالم المعاصر؟

لقد غُلِّبَ كل ما هو هامشي على المتن، فضاع المتنُ وبقيَ الهامش. ضاعت فلسطين كلها في عام النكسة، تحت أفيون القومية العربية. والآن، نواصل نفس النهج، وإنما بصورة أقبح وأفدح، تحت مزاعم أصلب عقائدياً، لأنها هذه المرة، تتماس مع الدين والمقدس، بما لهما من حضور كلّي على منظومتنا الفكرية والاجتماعية. وكما اكتشفنا بطلان الدعاوى القومية، ودفعنا ثمناً لذلك، كلَ فلسطين، وخمسينَ سنة كاملة من عمر الزمن، فعلى الأرجح، بل من المؤكد، أن نكتشف بطلان الدعاوى الأخرى، ولكن بعد مرور قرن من الزمن!

والخلاصة، إنْ كان ثمة إمكان للوصول إلى خُلاصات في سياقنا، أنّ الطابع الوطني لقضيتنا، يجب أن يُعاد له الاعتبار والاحترام الواجبيْن، إذا أردنا خيراً لشعبنا، وإذا أردنا أن نسابق الزمن العديم الرحمة بالضعفاء، قبل أن يصبح هذا الشعب، هو هو شعب التيه. وإلا فليس أمامنا سوى الذهاب، وهذه المرة، وبسبب من تعقيد الأوضاع في المنطقة والعالم، إلى الكارثة. الكارثة نعم الكارثة. فالخطاب الإسلاموي الشائع الآن، لن يفضي، لو أعطيناه مقاليد أمورنا، إلا إلى الموت: موت قضيتنا وموت لا قدر الله شعبنا.
قبل أيام، امتلأ قطاع غزة، حيث أسكن وأعيش، بلافتات قماشية كبيرة، غطّت معظم الأماكن والساحات المهمة في القطاع، بخطاب من نوع قديم - جديد، أطلقه شباب حزب التحرير، يقول بأن quot; الخلافة هي منقذنا، وبها نغزو ولا نُغزى quot;، وإلى ما هنالك من أقوال، تركّز على مفردة الخلافة، كخلاص جديد لأمة المليار، ولا خلاص دونه.
وكل هذا غيض من فيض كما تقول لغة العرب. غيض من فيض ينزل على ما تبقى من أرض فلسطين الجريحة: فلسطين التي تداعى عليها الأعداء الغاشمون، من جانب، والأبناء المضللون، من الجانب الثاني، فحارت على أي جانبٍ تميل.