الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، فاض به الكيلُ واقعاً لا مجازاً هذه المرة. ولا أعرف حقاً ماذا ينتظر سياسيوه، ولمَ وإلامَ ينتظرون؟ أينتظرون ما لا يأتي؟ ستة شهور بلياليها ونهاراتها، والموظفون لم يقبضوا رواتبهم. أكثر من مليون مواطن لا يجدون ما يقيم الأود. والآن بدأ أصحابُ المعد الخاوية هؤلاء، بعد أن ملّ الصبرُ من صبرهم _ كما يقال، يتظاهرون ويضربون ويخرجون للشوارع. عسى أن تصل رسالتهم إلى ذوي الأمر. لقد صبروا أكثر مما يجب وأكثر مما يلزم. صبروا على أمل أن تنفرج الأوضاع، فلا يكون ضرر ولا ضرار. لكن صبرهم عيل، وما من بارقة أمل في آخر النفق. إنها حالة غير مسبوقة في تاريخ الفلسطينيين الحديث : حالة من حصار الجوع حد الإنهاك والعياء، لم يعرفوها، على الأقل، منذ عام النكبة. إسرائيل ممعنة في الحصار القاتل بتواطؤ دولي، وسياسيو وقادة الشعب الفلسطيني، يعانون من مرض الشلل السياسي : لا مبادرات، ولا أفكار، ولا حتى محاولات جادة للخروج من بطن الحوت. فقط مناكفات ما بين الفصيلين الكبيريْن، مناكفات ومهاترات جعلت الرأي العام، أو قسم كبير منه، ييأس من أية إمكانية للتخفيف من معاناته في المدى المنظور، وجعلته يفقد الثقة بسياسييه، سواء كانوا في الحكم أو المعارضة. الكل يتكلّم الآن عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، كضرورة عاجلة لا تنتظر تأخيراً. حسناً، هذا أمر طيب لو تم بسرعة، المهم السرعة، فلقد تلكأنا أكثر مما يحتمل شعبنا. كان المفروض أن تُشكّل هذه الحكومة منذ الاتفاق على وثيقة الأسرى. ومع ذلك، لم تفت الفرصة. فلنشكّلها الآن. فربما نخرج من ساحة الخطر، داخلياً وخارجياً. داخلياً بتخفيف حدة الاحتقان الذاتي، وخارجياً بإعادة الاهتمام الدولي لمأساتنا وتعقيدات وضعنا. فواضح، أن الاحتقان الذاتي الداخلي، يزداد يوماً بعد يوم، في ظل الفلتان الأمني والفوضى والتعديات من كل نوع، وفي ظل الاستقطاب الحاد بين حماس وفتح. وواضح أيضاً أن الاهتمام الدولي بنا، وخصوصاً بعد حرب لبنان وتداعياتها على المنطقة بأسرها، تراجع إلى نقطة الصفر، ما يعطي الفرصة لإسرائيل، بأن تفعل بنا ما تشاء وكيف تشاء وأنّى تشاء. فهل هذا الحال، لو استمر على هذا الوضع، في صالح أحد منا يا ترى؟ الجواب معروف : فعندما ستغرق السفينة، فإنها ستغرق بجميع ركابها دون استثناء، لكن حسابات سياسيينا هي الغامضة، رغم وضوح الدم وسفور الغمّ. إنّ من البداهة القول في هذه النقطة، أن خلافاتنا الداخلية، لن تمكّننا لا من الصمود أمام التحديات الإسرائيلية الباهظة، والتي هي فوق احتمال شعبنا بمقدراته المحدودة، ولا من لفت نظر العالم لنا ولما يحدث معنا ولنا وعلينا من ظلم تاريخي. لقد تعب شعبنا قولاً وفعلاً. تعبَ وهو يحتاج الآن، أكثر ما يحتاج إلى هذه الحكومة، فإن لم تُشكّل، وبالسرعة الواجبة، من كل فصائل الطيف السياسي، فلا خيار إذاً سوى خيار الذهاب إلى حكومة إنقاذ وطني، حكومة فوق الفصائل، ومن خارج الفصائل لو أمكن. إذ من المستحيل أن يتحمّل هذا الشعب أكثر مما احتمل، ومن العبث أن ينتظر أكثر مما انتظر، فقد طفح الكيل، وصارت الأغلبية من الناس، تحيا، لا تحت خط الفقر، وإنما تحت خط الجوع، وما أدراك ما الجوع، وما معناه لدى الأُسر الكبيرة العدد! عام دراسي جديد يطلّ على الأبواب، والطلبة يحتاجون إلى ملابس جديدة وشُنط جديدة وأحذية جديدة، فضلاً عن تسديد الرسوم، فمن أين يأتي رب الأسرة بالمال الكافي لكل ذلك؟ الثلاجات فارغة _ وما أقسى أن تكون الثلاجات فارغة وخاوية، والأسواق راكدة، والأسعار في غلاء جنوني، تتسارع وتيرته المجنونة، مطلع كل صباح، بسبب إغلاق المعابر الإسرائيلية، ولأسباب أخرى أيضاً، حتى أنه يقال، بأن بعض التجار الجشعين، يدفعون لبعض مقاولي الحروب، مقابل أن يطلق هؤلاء القذائف والصواريخ تجاه الأراضي الإسرائيلية، فتغلق إسرائيل المعابر، وتشحّ البضائع في السوق، فيزيد التجار أسعارهم، كيفما شاء لهم ذلك، دون رقيب من حكومة هذا هو عملها وواجبها الأولي، ودون حسيب من أحد خارجها. إننا في ربع الساعة الأخيرة، قبل انهيار السلطة. والحق أنه لولا قطاع الموظفين المداوم، ولولا بعض الخدمات التي يقدمونها إلى الناس، لما كان هنالك سلطة. فالسلطة غائبة إلا من بعض مظاهرها العامة الديكورية فقط. السلطة غائبة في غير صعيد، فلا أمن ولا أمان، ولا حتى شرطة مرور لتنظيم السير على الطرقات. المواطن إذا اختلف مع مواطن آخر، يأخذ حقه أو باطله بيديه، وآخر شيء يمكن أن يحسب له حساباً هو وجود قانون تقوم على تنفيذه شرطة. والتجار يتلاعبون بالأسعار، فلا يراجعهم أحد، ولا يُلزمهم أحد بسعر عمومي محدد للسلع والبضائع. إنهم فقط متروكون لضمائرهم، وما أبأس هذه المثالية : أن يُترك المواطنون لضمائر التجار! وكل هذا يحدث، بينما إسرائيل تراقب وتنتظر، ربما، لكي تنهار السلطة من تلقاء ذاتها، فتتحقق بذلك، رغبتُها القديمة في إنهاء السلطة بيدنا نحن لا بيدها هي. والحق أننا، وبكل شللنا السياسي غير المسبوق وغير المعقول هذا، ماضون في هذا الطريق، سواء عن وعي أو غير وعي. لذلك، ولغيره من الأسباب، على أبو مازن، بوصفه رئيساً شرعياً للسلطة، أن يأخذ الأمر بيديه قبل فوات الأوان، وقبل أن نجلس جميعاً فوق تل الخراب، ثم نبكي على الأطلال، كما هو شأننا كعرب، من قديم الزمان. فلقد تأخّر أبو مازن في اجتراح هذه الخطوة، ونفهم نحن لمَ تأخر إلى هذه اللحظة. فالرجل يخشى من شبح الحرب الأهلية، ومن تعقيدات وحساسية الوضع الداخلي، ومن اتهامه بمحاولة انقلاب سياسي على الحكومة المنتخبة. ونحن معه في كل ذلك، ولكن إلى مدى محدد. وأظن أن هذا المدى قد انتهى الآن [ ألا تكفي مدة الستة شهور! ] وأنّ عليه بالتالي، كرئيس لكل الفلسطينيين، أن يتخذ ما يراه مناسباً، من أجل الخروج من الأزمة. فالأزمة تتعمق يوماً بعد آخر، ولا تخفت حدتها بل تزداد ضراوة. وصبر الناس نفد : صبر الموظفين نفد، فما بالك بصبر العمال؟ إن العمال، وهم النصف الثاني من هذا الشعب، هم الطبقة الأكثر تعرضاً للظلم، والتي قدّمت تضحيات لم تقدمها شرائح أخرى في المجتمع، جائعون منذ بداية هذه الانتفاضة، جائعون ومهانون ومذلون منذ ست سنوات، وما خروجهم أخيراً في مسيرة ضخمة في ساحة المجلس التشريعي بغزة، وهم يطالبون بتوفير الرغيف لأبنائهم، إلا مؤشر خطير على أن الوضع يتجه نحو الكارثة، فنصفا هذا الشعب، العمال والموظفون، بلغا حضيض الحياة، والتحق بعضهم بفئة المتسوّلين، ولا يمكن أن ينتظرا أكثر، فماذا ينتظر السيد أبو مازن؟ وماذا ينتظر السيد إسماعيل هنية؟ المؤامرة أكبر من قدراتهما المحدودة، صحيح، لكن الصحيح كذلك، أن موقع كل منهما، يُحتّم عليه أن يبادر إلى فعل شيء ما. فهذه هي مهمة صاحب المنصب السياسي، وذلك هو واجبه. فإن قصّر، فلا معنى للمنصب الذي أعطاه له الشعب. أما حكاية الانتظار إلى إشعار آخر، فهي حكاية يرفضها العقل السياسي، ولا يقبلها إلا العقل المثالي، العقل الذي ينتظر الفرج، يأتيه من جهة ما، دون أن يبادر هو إلى أن يكون فاعلاً. إنها حكاية المفعول به لا الفاعل. وحالتنا الفلسطينية الأشد حراجة في التاريخ المعاصر، هي آخر حالة في الكون بحاجة إلى هذا النوع من العقل. إن شللنا السياسي هذا، لا يمكن أن يستمر، ليس فقط لأنه في غير صالحنا البتة، وإنما أيضاً، وهذا لا يقل أهمية، لأنه سيفتح، هو لا غيره، قبرنا. ومرة أخرى : الشعب جائع منهك في حالة عياء تنبىء بانهيار كامل، وعلى الصعد كافة، اجتماعياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، بينما سياسيونا يتلكأون ويتباطأون، ولا يعرف أحد، بل لا يعرف عاقل، لماذا؟ فهل يصحّ هذا وهو أمر يتعلّق بمصائر الناس وبحاضرهم وبمستقبل أولادهم؟ إن على الرئيس أبو مازن، أن يتحرّك، بصفته رجل دولة أولاً وأخيراً. وإنّ على الرئيس إسماعيل هنية أن يتحرّك هو كذلك، بصفته رئيساً لحكومة كل الشعب الفلسطيني، فلا مجال لمزيد من الوقت، ولا مجال لمزيد من التلكؤ، ولا مجال لمزيد من إشاعة quot; ثقافة الكوبونات، بل نريد حلولاً جذرية، فالشعب الفلسطيني في خطر محدق، ومصالح هذا الشعب، يجب أن توضع فوق مصالح فصيل فتح الذي جاء منه أبو مازن، وفوق مصالح فصيل حماس الذي جاء منه إسماعيل هنية. بهذا وبهذا فقط : تغليب المصالح العليا لشعبنا على مصالح وحسابات تنظيماتنا، نخرج من بطن الحوت، وإلا فعلى من في بطن الحوت، وهم للتذكير : شعبنا بأسره وقضيتنا بكل محمولاتها، السلام، في زمن موت السلام.